من قرد إلى إنسان .

قصة البحث عن منشأ الإنسان هذه هي قصّة عظام و الحكايات التي ترويها كل منها , الفصل الأول من هذه القصة يبدأ هنا بعد أربعين ألف سنة مما حدث على باب هذا الكهف و اكتشاف هذا الرجل .
clear.gif


السنة هي 1856 م , الكهف يقع في وادي نياندور في ألمانيا , العمال ينقبون عن أحجار كلسية فهي عنصر أساسي في الصناعات الكيماويّة المحلية , لكنها مغطاة تحت طبقة من الصخور و التراب , العمال يتقاضون قروش قليلة كل يوم ليزيحوا هذا التراب و كل شيء فيه , ثم يضرب المعول شيء صوته يختلف عن صوت الصخر شكله يشبه سقف الجمجمة , و خوفاً من أن يكون هذا ضحية جريمة قتل , توقفوا ليعرضوه لمشرف العمل ليراه , بدت له مثيرة للانتباه و لكنه رأى هذه الأشياء من قبل فأرسلها مع بقية العظام لتكسّر مع بقية الصخور , لكن شيء ما جعله يغيّر رأيه فهو يعرف معلّم مدرسة , توقّع أن يكون له اهتمام بها , و بذلك أنقذ الجمجمة النبيلة , ما لم يكن له أن يتخيّله هو أنّ هذه الجمجمة لم ترى نور النهار لأربعين ألف سنة .

غرب أوروبا 400 قرن قبل الميلاد كان صاحب هذه الجمجمة مخلوق حيّ يتنفّس , إنه صياد والدٌ لأطفال و زعيم قبيلته , إنه فرد من أكثر المخلوقات البشريّة نجاحاً في أوروبا حتى ذلك الوقت , يطلق عليه اسم النياندورثال ... Neanderthal .

بعد أربعين ألف سنة البروفسيور يوهان فولراد معلم في مدرسة ثانويّة تصحّ له الفرصة لأن يرى هذه الجمجمة لأول مرّة , عالم جيولوجي مبتدىء و حاد الانتباه و أيضاً طالب سابق في علم التشريح , من أول نظرة رأى فيها الجمجمة عرف أن هذا الشيء هو شيء غريب و فوق العادة , تبدو أنها مستحاثّة و ليست عظم ما يعني أنها تعود لآلاف السنين , و من الواضح أنها ليست حيوان , و لكنها ليست أيضاً من إنسان معاصر .

( تبدو جمجمة النياندورثال الذي عاش قبل خمسين ألف سنة , كبيرة و كان له دماغ بحجم دماغ الإنسان المعاصر و أكبر منه أحياناً و تبدو طويلة و منخفضة , كما و يبدو الوجه و كأنه وجه الإنسان و لكن مسحوب إلى الأمام , كما أن له أنف كبير )


clear.gif

أكثر من 300 من بقايا النياندورثال اكتشفت حتى الآن و توزعت من أوروبا حتى الشرق الأوسط , و كلها تسرد نفس المعلومات , قامة قصيرة و قويّة جداً تتلائم تماماً مع المناخ و الطبيعة التي يعيش فيها , و هي طبيعة قاسية جداً , حيث كانت أوربا تدخل في بداية آخر عصر جليدي مرّ على الكرة الأرضية , حيث في غضون قرون قليلة قادمة ستنغمر أوروبا تحت طبقة من الجليد سماكتها بالأميال .
في هذا الوقت كان المناخ يتقلب بشكل هائل و سريع , و قد قاوموا أكبر التقلبات الخاطفة السريعة الباردة التي زحفت معها الأنهار الجليديّة .
الطريقة الوحيدة التي تستند عليها الحياة في هذا المناخ هي اتباع نظام غذائي غني بالبروتين , و هذا يعني إما أن تكون صياد ماهر و إما أن تجوع حتى الموت .
ما نعرفه من بقاياهم أن النياندورثال كانوا أقوياء جسديّاً , ولكنهم أيضاً كان لديهم ذلك الدماغ الكبير , الأدوات التي وجدت معهم كانت تقترح أنه كان لديهم تكنولوجيا متقدّمة في استعمال الأدوات الصخريّة , كان من الواجب أن تكون أسلحتهم جيدة دائماً , فإذا لم يكن الرمح جيد فالصيد سيفشل و معه صراعهم للبقاء .


clear.gif

كان رجال النياندورثال يعيلون عائلة أو مجموعة يزيد أفرادها عن الدزينة , و هم الآن في رحلة صيد , و لكن رحلة الصيد هذه طالت فقد مضى عليها ثلاثة أيام و غطوا أكثر من عشرة أميال دون أن يروا فريسة واحدة , ثم أخيراً عثروا على فضلات حيوانات ( تمتّع رجل النياندورثال بحاسّة شم قويّة تميزه عن كل الكائنات البشرية بسبب كبر تجوّف الأنف ) و منها عرفوا أنهم اقتربوا من غزلان , فمسحوا بفضلات الغزلان هذه جسدهم حتى يخفوا بها رائحتهم عند اقترابهم منه , هذا إذا استطاعوا الاقتراب منه , لقد اضطرّوا في الشهور القليلة الماضية أن يبعدوا و يمشوا كثيراً ليجدوا فريسة , عدد الغزلان قد انخفض و لكن ليس لديهم أي فكرة لماذا , ما لم يكن بعلمهم أنه أصبح لديهم منازع , و هذا المنازع سيدفع بهم يوماً ما إلى الإنقراض .

البرفوسور يوهان فولراد وضع يده على دليل لبقايا بشريّة قديمة غير معروفة للعلماء في ذلك الوقت , كان من الصعب جدّا أن يتوقّع ما هو هذا الكائن بدون أدلّة أخرى , وجدوا بعض العظام الأخرى و لكنها غير كافية .
أعطى فولراد العظام لعالم متخصص أكثر في هذا المجال و بالرغم من أنهم عثروا على بقايا و دلائل أخرى من نفس الكهف , لم يتمكنوا من معرفة هويته .
الآراء كانت كثيرة و متنوّعة , من بربري قاوم الرومان إلى روسي كوزاك ضائع , حتى أن بعضهم فكّر أنه مجرّد إنسان مشوّه , و لكن فكرة جديدة أخذت تتبلور , اقترح فولراد أن هذه الكائنات هم أسلاف البشر الحاليين , لكثير من العلماء بدى هذا الاقتراح هو الأكثر سخافةً و غير مقبول .
الجزء الثاني
ثم في عام 1859 م ثلاث سنوات فقط بعد اكتشاف هذه العظام , أخذ ذلك الاقتراح يتدعّم بشكل مفاجىء.

أصدر العالم تشارلز داروين عمله المشهور .. The origin of species .. أو أصل الكائنات ... لقد اقترح أن كل الكائنات الحيّة قد جاءت من كائنات بدائيّة بسيطة التركيب و ذلك بتطوّرها بشكل متسلسل , و إذا كان هذا صحيح لكل كائن حي على الأرض فيجب أن يشمل الإنسان أيضاً .
يظن الجميع أن العالم قد أعطى اهتمام كبير إلى ذلك الكتاب في ذلك الوقت , على العكس لم يكن أحد ليهتم إذا ما كان الحيوان البرمائي قد انحدر من سمكة , أو غيره . السؤال الأكبر كان من أين أتينا نحن البشر , هذا كان اهتمام العلماء في ذلك الوقت ,و صمموا أن يعطونا جواب , و أي جواب اعطونا إياه !!!.
إذا كان الإنسان قد تطوّر من شكل بدائي بسيط , فإن الورطة التي سيقع فيها عقل علميّ بديهيّة و مزعجة و مقلقة أيضاً ... فالبشر لا يمكن أن يكونوا قد انحدروا سوى من القرود , الأثر الذي سيتركه اقتراح مثل هذا سيكون عميق جدّاً , كثيرين توقّعوا أن نظريّة التطوّر هذه ستجعلهم على الأقل أكثر من حيوان بقليل .

clear.gif

لقد ابتعد تشارلز داروين عن الإجابة على هذا التساؤل و قال إنه سؤال مثير للجدل كثيراً و سأترك جوابه للعلماء الشباب القادمين ليجدوا له جواب .

بإلهام من عظام النياندورثال أصبحت نظريّة تطوّر الكائنات هذه أكثر المواضيع شهرة في تلك الأيام , و لكنها لن تكون أكثر من نظريّة بدون دلائل و براهين جديدة , و فجأة ً تحوّل اهتمام العلماء لسلف يمكنه أن يربطنا بالقرود .... ( رجل قرد ) .. ( Ape Man) .. الحلقة المفقودة ..(the missing link)...و سيذهبوا إلى آخر الأرض ليبحثوا عنها .

في أواخر القرن التاسع عشر أصبح ما يشغل بال العلماء هو الحلقة المفقودة تلك , و كان العالم يوهان فولراد قد ظنّ أن النياندورثال هو نقطة الوصل تلك .
عندما ظهرت عظام النياندورثال كانت واعدة كثيراً بأنها هي نقطة الوصل تلك , و لكن بعد تفحّص دقيق أخذت الفكرة تتداثر فهم يبدون أقرب للإنسان المعاصر منه إلى القرد . لو عدنا في التاريخ فإن هذا المخلوق يعود إلى 3000 جيل وراءنا أي من أربعين ألف سنة فقط لذلك للعثور على الحلقة المفقودة كان لا بدّ من أن نعود بالزمن أكثر لشيء يبدو أقرب إلى القرد منه إلى الإنسان , و لكن السؤال الأهم كان كم منه سيكون قرد و كم منه إنسان ؟.
لقد جاءت فكرة الحلقة المفقودة من نظرة بدائية لنظريّة التطوّر و هذا ليس غريب لأن الفكرة كانت في بداياتها في ذلك الحين , ففكروا أن ذلك الكائن كان إنسان و قرد بنفس الوقت , و يحمل ملامح و صفات من الكائنين , لم يكن هناك فكرة أن هذا التطوّر يمكن أن يأخذ مدّة طويلة جداً من الزمن و أن يكون ذلك التشابه خليط معقّد من الصفات المتشابهة , فكانوا إذا يبحثون عن كائن هو نصف إنسان و نصف قرد .
و لكن أين يمكن أن يجدوا تلك الدلائل و الإثباتات على وجود كائن مثل هذا , في ذلك الحين كان التفكير أن المكان الأكثر احتمالاً لوجود هذه الدلائل هو مكان يعيش فيه الإنسان البدائي و القرد جنباً إلى جنب , فتوجه البحث من أوروبا إلى جنوب شرق آسيا , في المستعمرة الهولندية جزيرة سوماترا في أندونيسيا , حيث أنها موطن للإنسان و القرد معاً .

أكتوبر 1889 ... لقد جاءت الرياح الموسمية على جزيرة سوماترا , و لا أحد يحتاج لأن يتعامل مع الغابات الكثيفة المداريّة فيها إلاّ إذا كان مضطرّاً لذلك .

clear.gif

منذ سنتين كان ليوجين دوبوا... Eugene DuBois .. مستقبل واعد في الطبّ في أمستردام , لكن اهتمامه العنيد بأصل الإنسان جعله يتبنى هذا التحدّي للعثور على الحلقة المفقودة , الآن و بعد أن ترك عمله و بيته في مجتمع أكثر تمدّناً , تحوّل الحلم الكبير إلى كابوس , لقد استثمر كلّ شيء يملكه في سبيل العثور على تلك الحلقة المفقودة , لم يكن دوبوا الشخص المناسب للعمل على الأرض , إذ لم يكن لديه خبرة و لم يعرف كيف يدرّب عماله و كيف يعتني بهم , فهم في الخارج تحت المطر في مكان مليء بالمخاطر , لقد عثر على كهوف كان يأمل أن يجد فيها المستحاثات التي يبحث عنها , و لكنهم لم يجدوها .
الآن مهندسيه توقّفوا عن الحفر و عماله منهم من مرض و منهم من هرب من العمل , و ليصبح الأمر أكثر سوءاً مرض دوبوا بالملاريا , نفس المرض الذي مات منه مهندسه الأول , و هو الآن على وشك أن يفقد كل صبره مع مهندسه الثاني الذي فقد عماله و لم يستقضي أجراً لشهور عديدة , و لكن هذا لم يعنيه لدوبوا بشيء , لقد أصبح فاقد للأمل لأن يجد شيء أو أن يصنع لنفسه اسماً معروفاً , إذ لم يعثر على شيء , لكن لولا أنه من الناس الذين يملكون صبر و إرادة قويّة و لو لم يكن ذلك الهدف يستحوذ على عقله و باله لكان قد ترك منذ فترة طويلة , لكن اتّضح له أن بحثه قد فشل فما كان منه إلا أن طرد مهندسه الأخير .
فترك المكان ليبحث في مكان آخر و لكنه لا يعرف أي مكان آخر للبحث سوى في إندونيسيا , و بعد سنتين بدأ بحثه مرّة أخرى و لكن هذه المرة في جزيرة Java .

clear.gif

أخيراً أخذ حظّه يتغيّر , فقد تعافى تماماً من الملاريا , كما و عثر على شيء يستحق النظر إليه , لقد عثر على مستحاثات لأسنان تبدو قديمة جداً و محيّرة , يبدو أنها تعود لأنواع من القرود .
الآن أصبح لديه مكان جديد للحفر , تعمل عليه و يهتم به الجيش الهولندي , و بين الحين و الآخر كانوا يجلبون له شيء يبدو لهم مثير للاهتمام , و في هذا اليوم في اكتوبر 1891 , إنه يوم لن ينساه دوبوا طوال عمره , اليوم عثروا على مستحاثّة لجمجمة , مثل سابقتها للنياندورثال من أربعين سنة سابقة , فهي سقف جمجمة فقط , و أيضاً مثل سابقتها أوقعت مكتشفها في متاهة كبيرة من الشكوك .
الغابات المجاورة تحوي على انواع كثيرة من القرود و لكن هذه لا تبدو أنها ترجع لأي واحدة معروفة منها , إنها رقيقة جداً و تجوّف الدماغ كبير , و لكن أيضاً لا تبدو أنها جمجمة إنسان , فهل يمكن أن تكون واحدة من أسلاف الإنسان أقرب إلى أصلنا للقرود ؟ الشيء الوحيد الذي بمكن له أن يقارنها به هو جمجمة النياندورثال , و أول مستحاثة لتلك كان عمرها 40 الف سنة , ما لم يكن يعرفه دوبوا أن ما عثر عليه هو أقدم منها بعشرين مرّة , إذ كان عمرها يتراوح بين نصف مليون و مليون سنة , و هي بدائيّة أكثر بكثير من النياندورثال , و لكن هل هي أقرب لأن تكون الحلقة المفقودة ؟.
ظن دوبوا أن مفتاح الجواب على هذا السؤال هو حجم الدماغ , كان لديه مقياس رياضي دقيق ليحدّد به الحلقة المفقودة ( تجوّف الدماغ يجب أن يكون نصف حجمه عند الإنسان و مرتين من حجم الشامبانزي ) و لكنه عندما أخذ مقاييس الجمجمة التي عثر عليها , كان الحجم لا يتطابق مع هذه المقاييس , فهي أكبر من أن تكون في نقطة الوسط , لذلك فهي أكبر من أن تكون الإنسان الذي يشبه القرد الذي كان في مخيّلته .
كما و ظهرت أيضاً دلائل جديدة من نفس الموقع و التي زادت عنده الحيرة , إذ وجدوا مستحاثّة لعظمة ساق كاملة , شكلها كان يوحي أن صاحبها كان يمشي واقفاً على قدمين فقط مثل الانسان !!! .
لم يقدر دوبوا ان يغيّر شيء في هذه الدلائل , فغيّر المقياس الذي اتّبعه , و قرّر أن الحلقة المفقودة كان لا بدّ أنها تملك دماغ أقرب بالحجم إلى حجم دماغنا , و كان واثق جداً من الدلائل التي عثر عليها لدرجة أنه أعلن للحكومة الهولنديّة أنه قد عثر على الحلقة المفقودة , أطلق عليها اسم … Pithecanthropus erectus ... أو ( قرد يمشي باستقامة ) هذه أفريقيا منذ 800 ألف سنة , و على بعد 8000 ميل من المكان الذي وجد فيه دوبوا قرده الذي يمشي باستقامة , و مع ذلك فإن هذا الكائن هو نفس الكائن الذي وجده دوبوا , يطلق عليه الآن اسم Homo erectus .. أو ( إنسان يمشي باستقامة ) , لقد استطاعوا أن ينتشروا و يستقروا في كل من أفريقيا و آسيا و أوروبا , يعود الفضل بذلك إلى خليط من الصفات الجسديّة و العقلية النوعيّة .

clear.gif

واقفاً بطول ستة أقدام أجسادهم كانت شبيهة إلى أجسادنا الآن , و حجم دماغهم ثلثي حجم دماغنا الآن , إنّ هذا الكائن يبدوا على وشك أن يصبح إنسان , و السبب الرئيسي لذلك هو نوعية الغذاء , فلأول مرة في تاريخ تطوّرنا أصبحت لدينا الوسائل للحصول على مركزّ بروتيني من اللحم , و لكن ليس هناك أي دلائل بعد على أن الهوموإيركتس كان صياداً , كان يسرق الفرائس من الحيوانات المفترسة و يستعمل الرماح لإبعادها .

clear.gif

يعتقد أن أجسادنا أيضاً كانت تمرّ بمرحلة تغيّر جذريّة في هذا الوقت , فلأول مرة في تاريخ تطوّرنا شعر الجسد بدأ يختفي , بسبب أن جلد هوموإيركتس بدأ ينتج غدد للتعرّق , و أصبح بغنى عن أن يلهث عند ارتفاع حرارته , مما سمح للصوت لأن يتطوّر و أن يعبّد الطريق إلى الكلام .
كانت أدواتهم الحجريّة هي التي دلّتنا على مدى تقدّم الهوموإيركتس , فقد عثرنا على ما يدعى بالفأس اليدوي , و الذي كان كالسكينة العديدة الاستعمالات في عصرهم , فقد صنعت لتعمل باستمرار و على حديها الاثنين بمهارة , و قد اخترعها الهوموإيركتس منذ أكثر من مليون و نصف سنة , و هذا تطوّر عظيم في التكنولوجيا .

clear.gif

هؤلاء الناس هم جزء من عائلة و جزء من قبيلة أكبر , لكنهم عاشوا كعائلة واحدة متماسكة , فهناك دلائل أنهم كانوا يعتنو ببعضهم البعض عند المرض و الإصابات بالجروح , فعظمة الساق التي وجدها دوبوا في Java كانت تحمل ندبة أو أثر لكسر , و لكن هذا الضرر يبدو أنه قد تصلّح , فأي كان صاحب هذه الساق لم يبدو فقط أنه تعرّض لجرح كبير و خطير و إنما أيضاً قد تعافى منه , و هذا شيء مهم جداً لأنك لوكسرت قدمك و أنت تعيش في البريّة هذا يعني الموت و لا فرصة لك للبقاء , إلا إذا كنت تعيش مع عائلة أو قبيلة أو مجتمع .
هناك أمان للفرد مع العائلة , و لكن العائلة لا تبعد كثيراً عن الخطر , فالنمور كانت تستعمل نفس المخابىء الصخرية التي كان يعيش فيها , و عندما يأتي الظلام كانوا يصبحون في خطر كبير إن كان معهم رماح أو لم يكن , و العاصفة القادمة هذا المساء يمكن أن تجلب حيوان مفترس باحثاً عن مخبأ , لكن هذه العاصفة اليوم ستجلب شيئاً آخر , ستجلب سلاح جديد ليغيّر موازن القوى بين أسلافنا و منافسيهم , و سيكون أهم جزء في لغز تطوّرنا البشري .. هديّة من الطبيعة .

كل حيوان على الأرض كان يواجه النار كان يهرب منها , حتى هذه اللحظة .

clear.gif
هوموإيريكتس يقف الآن على تقاطع طرقات في تاريخ تطوّر البشريّة , إذا استطاع أن يفعل ما لم يحلم به , و إذا استطاع أن يسيطر على خوفه الآن , سوف يلجم قوّة جديدة , كل ما يحتاجه هو الجرأة لأن يمد يده إلى اللهب .

clear.gif

عندما روّض الإنسان النار كانت هذه خطوة كبيرة إلى الأمام , و لا بد أنها كانت حادثة رائعة عندما واجهوا النار و تعلّموا كيف يسيطروا عليها بدلاً من أن غريزيّاً يهربوا منها , و عندما تعلّموا أن يسيطروا عليها و تعلّموا أن يصنعوها أيضاً , كان ذلك تقدماً كبيراً , فالوقع الذي تركته النار على تطوّر البشرية كان هائلاً جدّاً .

clear.gif

تكنولوجيا النار هذه أمنت للهوموإيركتس الحرارة و الضوء و الحماية في سفرهم , فساعدتهم أن يهاجروا عبر العالم من أفريقيا إلى أسيا و أبعد .

و هكذا كان لدوبوا أن يعثر على بقايا مستحاثاتهم في Java , و لكن هذه الكائنات القريبة من البشرية تختلف تماماً عن فكرة دوبوا من الإنسان القرد الراكز الاستقامة , ففي مخيلته كان يظن أنه قد وجد الخليط التام لإنسان و قرد لأن يكون الحلقة المفقودة , الآن كل ما هو بحاجة اليه أن يقنع العالم كله , و هذا لن يكون سهلاً .

لقد ظن أن العالم كان جاهز لهذا الاكتشاف و عندما سيعلنه سيكون مجتمع العلم تحت قدميه , هذا هو الاكتشاف العظيم الذي كان العالم ينتظره , و لكن هذا لم يحصل لأنه عندما نشر عمله و اكتشافة ظن الكثير أن هذه المستحاثات هي أقرب إلى القرد لأن تكون الحلقة المفقودة .
كان دوبوا مقتنع حتى النهاية أن ما عثر عليه هو الحلقة المفقودة , و لكن المجتمع العلميّ لا يتّفق معه بالرأي , فرفضوا ادّعاءاته , و لأنه لم يكن في مكان الحفر لم يكن لديه دليل أن هذه المستحاثات ترجع إلى نفس الكائن , فكان حكم أغلبية المختصين أن عظمة الساق هي بشريّة و الجمجة تعود إلى أحد أصناف القرود المنقرضة أو الغير معروفة .

clear.gif

فعاد إلى بلده و لم يهتم أحد إلى عمله أو للمستحاثات التي عثر عليها , فلا بد أن ذلك قد كسر قلبه و أحزنه كثيراً , فانتهى به الأمر أن رتب مستحاثاته و قال حسنا إن لم تصدقوني فلن يكون لكم سبيل للوصول و الاطّلاع عليها .
لا بدّ أن هذا القرار كان أكبر عزاء في تاريخ العلم , إن لم تصدقني فليس لك أن تنظر إلى حاجياتي . لكن في النهاية اعترف المجتمع العلمي بأعماله , و لكن ليس قبل مرور عقود عديدة من الزمن .

في الوقت الحالي البحث عن الحلقة المفقودة يستمرّ , و في بداية القرن العشرين انتقل البحث من آسيا إلى أوروبا , لأنه في بريطانيا حصل اكتشاف سيذهل العالم أجمع , و معه ستخلق أكبر فضيحة في تاريخ العلم .

clear.gif
ديسمبر 1912 لندن .. في مقر الجمعيّة الملكيّة للبحوث الجغرافيّة .

منافس جديد لمستحاثّة الحلقة المفقودة على وشك أن يُرفع الستار عنه في مركز هذه الؤسّسة العلميّة , هذه المرّة المختصّين كانوا جاهزين لأن يقتنعوا , لأن هذا الشيء يبدو أنه الإنسان القرد التام , كما و أنه ابريطانيّ أيضاً ... سموه ال Piltdown Man .

clear.gif

لقد كان هناك تنافس كبير بين البريطان و الألمان في هذه الفترة تفاقم إلى الحرب العالميّة الأولى , كان تنافس قوميّ و فنّي و حتى علميّ , فكانت حقيقة عدم وجود أي شبيه لدى البريطانين للنياندورثال الذي وجده الألمان , سبب رئيسي في النجاح الذي حقّقه ال Piltdown Man فبمجرّد أن وصل كان إثباتاً بأنهم قابلين على إيجاد نظير لأي شيء يملكه الألمان .

هناك شعور ترقّب ممتلىء بالأمل بين مجتمع العلماء القادم إلى مقرّ الجمعيّة الملكيّة للأبحاث الجغرافية , و تشارلز دوسين على وشك أن يصبح أشهر شخصيّة في البحث عن بقايا مستحاثات في الإمبراطوريّة البريطانيّة .

الجمجمة التي جمعها تُظهر الخليط التام من الملامح الذي توقّع الجميع أن يجده في الحلقة المفقودة , لأنّ ما كانوا يشعرون به في ذلك الوقت أن جوهر الإنسان هو حجم الدماغ , و تصوّرهم الذهنيّ للحلقة المفقودة , هو أن تحمل دماغ كبير مخلوط مع بعض من مميّزات و صفات القرود .. و طبعاً هذا ما كان يبدو عليه ال Piltdown Man .

قدّمت هذه المستحاثات ما كان يأمله أغلب المختصين البريطانيين , فهي تحمل دماغ كبير في غلاف عظمي يبدو بدائيّ و سميك , أما عظمة الفكّ قتبدو أقرب إلى القرود .

clear.gif

لقد حقّق هذا الخليط كل ما كان يتوقّعه أغلب المختصّين , بأن يكون الدماغ قد بدأ بالنمو أولاّ أما الأسنان و الفك فقد تطوّرت فيما بعد , و هذا ما قدّمته هذه المستحاثّة , و ما زاد على ذلك أنها بريطانيّة الأصل .

قبل ثلاث سنين , ظهرت أعظام هذه المستحاثة صدفة , عمّال يحفرون الطريق وجدوا ما يشبه ثمرة جوز الهند , و غالباً ما كانوا يكسروها , لقد كانت جمجمة ال Piltdown Man .

كان تشارلز دوسين باحث مبتدىء و صيّاد للمستحاثّات يحمل طموح لأن يكتشف شيء يكسّر به الأرض , كان يمرّ من موقع الحفر هذا كثيراً متفائلاً أن يظهر فيه شيء جديد , الآن مثابرته حققت نتيجة , فمجرّد أن فحص تلك الشظايا عرف أنها شظايا جمجمة , و ربما هناك المزيد فسأل العمال أن يبحثوا عن بقايا أخرى .
لقد عرف أنه وجد شيء ذو أهميّة أخيراً , و لكن حتى يحصل على دعاية واسعة لما وجده كان لا بد أن يورّط معه خبير مختصّ .

بعد سنة تمكن من إقناع آرثر سميث ويدوورد من المتحف البريطاني لأن ينضمّ إليه في البحث عن دلائل جديدة , فشظايا الجمجمة تبدو أنها بشريّة , و هم يأملون أن يجدو شيء أكثر بدائيّة شيء أقرب إلى القرد منه إلى الإنسان , و ما يدعو إلى الدهشة أنهم وجدوها بسرعة .

clear.gif

الدلائل الآن تبدو قاطعة , و بدعم من آرثر سميث ويدوورد شعر دوسين أن بإمكانه أن يقوم بأجرأ الإدّعاءات , فقدّم هذه الدلائل على أنها ليست إلاّ أن تكون مستحاثات الحلقة المفقودة , شيء كان ينتظره العلماء البريطانيين لزمن طويل , الحلقة المفقودة التامّة ..( دماغ كبير _ رجل قرد _ و بريطانيّ ) .

المستحاثات كانت حقّاً مكمّلة لأن تكون الحلقة المفقودة , فجزء منها كالإنسان و جزء كالقرود ,إنها تركب بشكل تام في الوسط لأن تكون الحلقة المفقودة , إنه أمر لا يصدّق , و بسبب أن الجميع أراد أن يجدوا شيئاً و لأنها كانت بريطانيّة لم يهتمّ أحد لأن يتفحّص الحقائق ... و بينما كان دوسين يتذوّق لحظة النجاح هذه , كان العلماء المتفرّجين غافلين لحقيقة أنهم وقعوا في أكبر خدعة بتاريخ العلم , و ستأخذ الحقيقة عقوداً من الزّمن قبل أن تظهر .

و حينما أقنع المختصّين أنفسهم بأشياء مزوّرة في بريطانيا , كان هناك كنز علميّ حقيقي ينتظر الإكتشاف , و لكنه في جزء من العالم لم يهتم أحد في هذا الوقت أن ينظر فيه ... جنوب أفريقيا .

clear.gif
وصل العالم الفيزيائي الأسترالي Raymond Dart البالغ 31 سنة من العمر إلى جنوب أفريقيا ليبدأ عمله في التدريس .

اليوم سيتزوّج صديقه و Dart هو الإشبين , بقي لهم نصف ساعة لتحضير أنفسهم هو و زوجته Dora , لكن تفكيره في مكان آخر , حيث كان يجمع المستحاثات في الشهور الأخيرة يرسلها له أصدقاؤه و طلاّبه , و قد جاءه خبر الأسبوع الماضي عن مستحاثّة مثيرة للاهتمام , وجدت في مقلع حجارة كلسيّة قريب , و قد وصلت الآن في القطار و أحضروها إلى بيته .

كان لديه واجبات للعرس بعد دقائق قليلة , و لكنه على وعد بمستحاثّة رائعة و من الصعب جدّاً أن يتجاهلها , فذهب لينظر إليها و أول شيء وجده هو قطع صغيرة من العظام , أشياء رأاها كثيراً , ثم رأى شيء لم يكن ليحلم برؤيته بتاتاً ... إنه دماغ , و للتحديد : الفراغ الذي كان يشغله الدماغ , الآن ممتلىء برمال متحجّرة .

clear.gif

لقد عرف من أول نظرة أن دماغ القرد هذا الذي بين يديه هو دماغ غير طبيعي , إنه قالب دماغ أكبر بثلاث مرات من دماغ أي بابون , و أكبر بشكل مدروس وواضح من دماغ الشامبانزي , لكنّه ليس كبير كفاية لإنسان بدائيّ , فدماغ من هذا ؟.

نظر دارت في الصندوق ليرى لو كان هناك أي شيء آخر من نفس المخلوق , فوجد قطعة صخرية و عليها معالم فكّ علويّ , و خلفه كان تجوّف دائريّ , و لمّا طابق الدماغ مع هذا الفراغ وجد أنه ملائم تماماً , فاتّضح له أنه الآن يملك كل من دماغ و جمجمة إنسان قرد غير معروف حتى الآن .

clear.gif

لكن الوجه كان مطمورٌ داخل الصّخرة , و لا قدرة له لأن يكشف عنه الآن , لكن عرف Dart أن سنتيمترات قليلة من الصخر فقط تفصله الآن عن اكتشاف هام و خطير .

لقد وصلت مستحاثّة الإنسان القرد هذه ل Raymond و هو يأمل الآن أن تكون هي الحلقة المفقودة , لكنها مطمورة داخل كتلة من الصخر القاسية , و ستسغرق معه سبعة أسابيع لأن يظهر هويّتها , سوف تكون هذه أول مستحاثة لأي من أسلاف البشر وجدت في أفريقيا , و هي أيضاً أقدم واحدة اكتشفت حتى الآن .

جاءت اللحظة الحاسمة في ليلة عيد الميلاد سنة 1924 م , ما ظهر أولاً هو أسنانه صغيرة و دقيقة مثل أسنان طفل , ثم ظهر الخط الخارجي للجمجمة و هو أقرب ما يكون إلى القرد , و بعد أن كشف عنها أخيراً اتّضح له أنه قد وجد شيء فوق العادة , خليط من ملامح إنسان و قرد لم يراها أحد من قبل , بوجه طفل .

لقد وجدت المستحاثّة في مقلع صخور كلسية في بلدة اسمها Taung فسماه Taung child الاسم العلميّ لها Australopithecus Africanus القرد الجنوبي لأفريقيا .



و هو يعود في الزمن أقدم من ال Neanderthal البالغ من القدم أربعين الف سنة , و أقدم من Homo Erectus اكثر من نصف مليون سنة , Piltdown كان يفترض أن عمره مليون سنة , لكن Taung يبلغ عمره أكثر من 2 مليون سنة , و إذا كانت هذه المستحاثة هي الحلقة المفقودة , فإن هذه الحلقة هي أقرب إلى القرد أكثر مما كان يتوقّعه أحد , و هي تثبت لأوّل مرّة أيضاً أن أسلافنا قد جاؤوا من أفريقيا حتماً .

هذه جنوب أفريقيا منذ مليوني سنة , عالم ال Taung child , و تماماً كما هي السافانا اليوم , الطعام قليل و نادر و صعب التقاطه , و هذه أم Taung .

clear.gif

بطول لا يزيد عن الثلاث أقدام , و بوزن يقارب السبعين باوند , إنها ليست بصيادة لكنها تكمّل نظام غذائها من بقايا الفرائس التي تتركها الحيوانات المفترسة , مثل الشامبانزي حالياً تستعمل الحجارة لتكسر العظام و تأكل النخاع الغني بالبروتين .

clear.gif

لكن الحيوانات المفترسة المدينة لهم بهذا الغداء , لم يكونوا يوماً بعيدين كالأسود و الضباع الضخمة و كثير من الحيوانات المفترسة التي لا نراها اليوم , حيوانات خطيرة جداً , و كلها يمكن أن تأكل أو تطارد ال Taung child أو أمه .

بينما كانت منهمكة ببقايا الفريسة التي تركتها الحيوانات المفترسة , تركت ابنها في مكان آمن تحت ظل شجرة , يبلغ من العمر ثلاث سنوات و هو بحجم طفل يبلغ من العمر 18 شهر الآن , و هو لا يملك أي حماية بعيد عن أمه , لكن أمه تراقبه كما تفعل أي أم .

ليس هناك شك أنهم كانوا يهتموا بأبنائهم , تماماً كما هو الشمبانزي الآن , من أكثر الحيوانات اهتماماً بأبنائهم , لكن المشكلة أن هذا الطفل الآن هو بعمر كافي و قوة كافية لأن يترك أمه لفترات من الزمن , و الأم لم تدرك الآن أن ابنها قد مشى بعيداً حتى تأخر الوقت .
ليس هناك إشارات أو رائحة لأي حيوان مفترس , لكن الحيوانات المفترسة هذه لا تكمن على الأرض فقط , هناك خطر أيضاً من النسور ( إذ حتى هذا الوقت هناك حوادث مسجّلة لنسور تأخذ أطفال في كينيا بعمر حتى الست سنوات , فللنسر مخالب قويّة و قدرة على الحمل و الطيران بنسبة رفع أعلى من تلك عند الطائرات المحاربة ) لم يدرك الطفل أن هناك نسر فوقه , أما الأم فقد رأت الطفل و النسر بنفس الوقت , لكنها لم تقدر الوصول إلى ابنها بسرعة كافية .

لقد وجدت جمجمة ال Taung child مع قشور بيض و جماجم حيوانات أخرى , على نمط الرواسب الموجودة تحت أعشاش النسور , فكثير من العظام كانت تظهر عليها علامات على شكل حرف V تركها منقار النسر الذي كان ينقر العظام ليصل إلى داخل الجمجمة و يأكل جزأه المفضل و الغني بالبروتين و هو الدماغ .

قرّر Raymond Dart أنّ هذا الحيوان الضعيف هو الحلقة المفقودة .

هذا هو يوم عيد الحب سنة 1925 م بعد شهرين من اكتشاف حقيقة Taung child من الصخرة , قبل أسبوع نشر Raymond جريدة علميّة ادّعى فيها أن Taung child هو الحلقة المفقودة , مثيراّ بذلك عاصفة من الخلاف و الجدل . و الآن سيرسلها إلى لندن .

ظن Dart أنه قد وجد الحلقة المفقودة , و لكن هناك أيضاً ال Piltdown Man و الذي ظنّ العلماء أنه هو الحلقة المفقودة .

كان يتوقّع العلماء أن نمو الدماغ هو الذي دفع التطوّر البشري , و Piltdown كان لديه دماغ كبير و فك أسنان قريبة لأسنان القرد , أما Taung فكان على العكس إذ لديه دماغ صغير و أسنان شبيهة بأسنان الإنسان , و كان لديه خليط كبير من الملامح الأخرى تجعله مختلف تماماً , فهو أقرب لأن يكون قرد إنسان من أن يكون إنسان قرد , خليط كبير من الملامح لم يراه العالم من قبل , و لم يكونوا متهيئين له .

أكبر المختصّين في هذا المجال تبنّوا Piltdown , و أي صوت معارض كان ينهك من مدى السّلطة لهؤلاء الناس , و منشورة Dart تتعارض بشكل مباشر مع المؤسّسة العلميّة , و قد أرسلها إلى لندن ليطّلع عليها المختصّين , نفس المختصين الذين تتعارض وجهة نظره معهم , فصرفوا النظر عنها نهائياً و رفضوها لأنهم كانوا يراهنون على الحصان الآخر .

كان لديه مؤيّد واحد في صراعه على الشهرة الدكتور Robert Broom , مثل دارت باحث مستحاثات غير معروف , و قد جلب له الردّ الآن من لندن على رسالته , لقد وضعوا Taung في فصيلة من فصائل الغوريلا لأن الدماغ صغير جداً فلا يمكن أن يكون من أسلاف البشر .

استاء Dart من ذلك الردّ , فكيف لهم أن يدّعوا أن دماغ الإنسان يجب أن يكون بحجم معيّن , كيف لهم أن يدّعوا أن هناك مقياس معيّن لحجم دماغ الإنسان البدائي !؟ . لقد صفّ العلماء ليدينو مستحاثة لم يروها في حياتهم !.

ما الذي سار غلط لريمون دارت ؟ ... الرجل الخطأ – المكان الخطأ – و الشيء الخطأ .

_الرجل الخطأ لأنه أوسترالي و ليس جزءاً من تلك المؤسّسة .

_المكان الخطأ .. جنوب أفريقيا ! الكل كان يتوقّع آسيا أو أوروبا .

_ إنها الشيء الخطأ فهو يطلق عليها اسم قرد , الجميع كان يظن أنها قرد و إذا كانت قرد فأين مكانها في القصّة .

لقد وجد Raymond Dart أروع و أعظم اكتشاف في القرن العشرين , لكن المؤسسة العلميّة تصرف النّظر عنها و تضعها في صناديق و تهملها لأكثر من 25 سنة .

في العشرينات و الثلاثينات من القرن العشرين , أكثر الكتب قراءة عن أصول البشر لم تلمّح نهائيّاً لما وجده Dart , عمله لم يَدرّس في الجامعات , لقد عانى دارت الكثير , و وضعه العلماء في دائرة من التجاهل , و بقي كذلك حتى أواخر الأربعينات , عندما بدأت الآراء المربّطة تتغيّر ووجدوا أنه كان على صواب . لقد تطلّب الأمر ربع قرن من التنقيب في مقالع الصخور الكلسية و الكهوف في أفريقياً للحصول على الأدلّة الكافية التي احتاجها Dart . و في أواخر الأربعينات بعد دزينات من الاكتشافات المشابهة لاكتشافه , أخيراً أثبتت أنه على حق .

لكن ماذا حلّ بال Piltdown man لتشارلز دوسن ؟

بعد أربعين سنة من اكتشافه و اعتماده على أنه الحلقة المفقودة في تاريخ تطوّر البشريّة , وضع للفحص لأوّل مرّة , و لأول مرّة يظهر على حقيقته إذ لم يكن إلا خدعة دبرت بشكل منمّق , لقد سبب اكتشاف حقيقته لكثير من الخجل و الارتباك و الدهشة و أحياناً عدم التصديق , لم يصدقوا ان هذا الشيء كان مزوّر و ليس أصليّ .

لكن الدائرة العلميّة و العالميّة الواسعة و خصوصاً خارج بريطانيا كانت مرتاحة لهذا الاكتشاف , فالكثيرين كانوا يرون أن هناك شيء غريب و مشكك في أمر ال Piltdown man بالرّغم أنهم لم يضعوا يدهم عليه .

قرر العلماء في متحف تاريخ الطبيعة في لندن أن يقوموا بفحوصات كيميائيّة حديثة على مستحاثة ال Piltdown , و بمجرّد أنهم بدأوا بحفر عيّنة من عظم الفك لاحظوا أن هناك شيء غريب , هناك ما يشبه رائحة الجسد المحروق , و هذا لا يمكن أن يأتي إلا من عظام طبيعيّة و ليس من مستحاثّة , و هذا يعني أن عظمة الفك هذه لا يمكن أن تكون أقدم من بضعة آلاف من السنين , و بالفحص الدقيق تحت المجهر وجدوا أن هناك علامات حفر واضحة على الأسنان , فهي في الأصل لقرد معاصر حفرت بشكل تبدوا أقرب به إلى الإنسان , فاتّضح لهم أن كل هذه التركيبة من العظام الموسّخة لتبدو قديمة , ما كانت إلا اشياء مزوّرة .

لم يعرف من هو المزوّر , و لكن بموته ماتت معه فكرة قديمة , بأن الدّماغ الكبير هو العامل الذي يحدّد الحلقة المفقودة . إذاً شيء آخر يجب أن يأتي قبل الدماغ الكبير , فبدأت نظريّة جديدة تأخذ مكان النظرية القديمة : إن ما يحدّد بداية البشرية لم يكن نمو الدّماغ , ما كان يحدّدها هو بداية استعمال الأدوات .

في مكان ما في أفريقيا , يستلقي أول إنسان استعمل الأدوات , و في أواخر الخمسينات , كان هناك رجل في طريقه لاكتشافه .

 
رد: من قرد إلى إنسان .

قراءت النص واعود للتكملة

شكرا لالك شاه على روعه الطرح
 
هور يانعه في بساتين المنتدى نجني ثمارها من خلال الطرح الرائع لمواضيع اروع
وجمالية لا يضاهيها سوى هذا النثر البهي
فمع نشيد الطيور
وتباشير فجر كل يوم
وتغريد كل عصفور
وتفتح الزهور
اشكرك من عميق القلب على هذا الطرح الجميل
بانتظار المزيد من الجمال والمواضيع الرائعه
 
عودة
أعلى