Kurd Day
Kurd Day Team
مجلة هاوار العدد /35 / السنة 1941 الصفحة 8، 9، 10.
الذنب
قرأت مرة في كتاب ما: (مهما كانت حادثة الرجل قديمة، تركت أثراً عميقاً في ذهنه..) رأيت أشياء كثيرة في طفولتي، واليوم أذكرها جيداً... لكن هناك أشياء حديثة رأيتها أو سمعت عنها أو جرت معي لا أتذكرها اليوم بسهولة.
ربما عندما كنا أطفالاً كان ذهننا صفحة بيضاء خالية من أي هموم، لذلك تتخذ الحوادث والذكريات مكانة لها بسهولة في ذاكرتنا، وكلما مضت فترة تركت الحوادث أثراً عميقاً في الذاكرة... هذه احدى الحوادث التي مرت معي عندما كنت طفلاً صغيراً .
انقضى الربيع، وبدأ فصل الصيف، كان كل شخص يهرب من حرارة الشمس، ويلجأ إلى ظل شجرة أو ظل جدار.
بعد مضيّ أشهر الدراسة الثمانية أغلقت المدارس أبوابها، كنت فرحاً جداً، ثمانية أشهر دراسة بين الضجيج والضوضاء، بين الجدران الضيقة والغرف المظلمة، لم يُصب جسدي بالروماتيزم فحسب بل كانت روحي أيضاً، تعفنت وتصدع قلبي.
عندما بشرنا أستاذنا ببداية عطلة الصيف، لم أفرح وحدي بل جميع طلاب المدرسة كانوا فرحين، ويرمون قبعاتهم باتجاه السماء دلالة على الفرح وقالوا: (يعيش الاستاذ، يعيش الاستاذ)!
لقد بكى ثلاثة أو أربعة طلاب فقط كانوا قد رسبوا في صفهم، وكانوا خجلين من الاستاذ وزملائهم، وقد كانوا يخافون من أهلهم أيضاً ، تنهمر الدموع من أعينهم. تأثرت لبكاء هؤلاء الطلاب ولأوضاعهم.
* * *
مضى وقتٌ على اغلاق المدرسة، لم أتذكر جيداً، ربما شهر أو شهران ونصف كنا أنا وبعض اصدقائي نقفز من صخرة إلى أخرى، نبحث عن أعشاش الطيور نجتاز الوديان والسهول ونلاحق صغارها التي لم تستطع الطيران بعد، ساعات طويلة، كنا نمسك فراخها الصغيرة التي لا تستطيع أن تعبر عن غضبها بغير الزقزقة، وتموت بين أيدينا، كنا نلعب بها.
كنا نتجول أحياناً حاسري الرؤوس، وأخرى حفاة ورغم ذلك نفرح كثيراً، كانت ثيابنا وأحذيتنا وقبعاتنا تعيق حركتنا فنتخلى عنها بأي شكل ونتحرر منها .
كانت الأشواك تغرز في اقدامنا وسيقاننا، والاكمة تجرحنا ولم نكن نبالي بشيء أو نهتم به، يسكرنا اللعب والتحرر والحرية. . نسمع الشتائم من أهلنا أحياناً كثيرة كذلك ولا نهتم.
بعد ثمانية أشهر من الدراسة وحياة السجن الالزامي بين جدران المدرسة، نستحق، هذه العطلة الصيفية بل من حقنا أن نقضيها ولايحق لأحد أن يمنعنا منها.
ذات يوم توحدت كلمتنا نحن الأربعة أصدقاء واتفقنا: سنذهب إلى المغارة، إلى صيد فراخ الحجل... تبتعد المغارة عن قريتنا ثلاث أو أربع ساعات، كان الحجل وفراخه تلجأ إلى ظل تلك المغارة من شدة حرارة الصيف، ويوجد في المغارة نبع ماء، فالمغارة ملجأ الجان والأشباح. سمعت ذات مرة من جدتي أن المغارة عاصمة ملك الجان والاشباح، لا أحد يتجرأ أن يدخل إلى المغارة، حتى الكبار لم يتجرأوا على الدخول إليها. لكن الطفولة ورغبة الصيد أنستنا الجان وكل شيء... كنا نريد أن نظهر رجولتنا للمرة الأولى ونقتحم المغارة دون خوف، ونصطاد فراخ الحجل في مغارة الجان والاشباح.
توقف رشو و رمو أمام باب المغارة، دخلت أنا وجمو إليها، أمسكنا بصعوبة بالغة أربعة من فراخ الحجل، كانت صغيرة لا تستطيع الطيران. كنا فرحين جداً وكأننا استولينا على كنوز الدنيا بل أكثر من ذلك، وفي الحقيقة تعبنا قليلاً، كانت أمام باب المغارة شجرة توت كبيرة، جلسنا تحتها، كي نرتاح قليلاً ونفرح بصيدنا... كان جمو يريد أن يشرب الماء فقد نال منه العطش، وهمّ أن يدخل المغارة كي يشرب الماء، لكنه لم يتجرأ أن يدخل وحده، عرفت أن كبرياءه يمنعه أن يقول لي: ادخل معي إلى المغارة، لا أتجرأ على الدخول وحدي. وعرفت أنه سيدخل بمفرده، خطرت لي فكرة طفولية خبيثة، أردت أن أجرب شجاعته. تواريت عنهم ودخلت المغارة، لم يشك أحد من زملائي ولم ير أحد أنني دخلت المغارة. اختبأت في زاوية ما، رأيت أن جمو يدخل المغارة بهدوء والخوف يسيطر عليه، كانت المغارة مظلمة وجمو لم يشرب الماء بعد: عندما اقترب مني، فجأة صرخت بصوت عال وقلت:بخ..بخ. هيهات... فكر جمو أن الجن يلاحقونه، التفت جمو خائفاً ثم سقط على الأرض، ولم يعد يتكلم، صرخت عليه عدة مرات لكنه لم يجب ولم يرد علي، فتح عينيه عدة مرات فقط ونظر إليّ بخوف. همد بريق عينيه الخضراوين في ظلمة المغارة، عندها فهمت أنني أجرمت بحقه، ذهبت إلى الأصدقاء وقلت لهم: تعالوا ماذا جرى لجمو؟.
ذهبنا ثلاثتنا إليه، حاولنا كثيراً أن نحركه من مكانه لكننا لم نستطع، كنا جميعاً أطفالاً، ولاتتجاوز أعمارنا ثماني سنوات، سمعنا صوت ناي حزين من بعيد، لابد أن هناك راعٍ يعزف عليها، بقي رشو ورمو مع جمو، توجهت إلى صوت الناي، وصلت إلى الراعي بعد فترة وقلت له ماجرى لنا. كان الراعي قريب جمو من بعيد، سلم قطيعه لصديق له، وجاء معي إلى المغارة، حمل جمو على ظهره وعدنا جميعاً إلى القرية. مازال جمو لا يستطيع التكلم، وخبأت فعلتي بل جريمتي حياءً، حتى أنني لم أخبر أصدقائي الحقيقة.
كيف نعود إلى القرية؟ ماذا يقول أهل جمو لنا؟ ماذا نقول لأهلنا؟ كنا نذهب مضطربين ونفكر. انتشرت قصتنا بسرعة في القرية. سجنني والدي في البيت، سمعت أن أصدقائي الآخرين مثلي قد سجنوا في البيوت. مازال جمو لا يتكلم. كل واحد كان يقول: جنيّه شيطاني وليس رحمانياً، وكان الجميع يخافون من نهاية جمو إلا الشيخ صدقة.
كان الشيخ صدقة يعرف الجن والأشباح، ذلك العجوز الذي فعل فيه الزمن حتى انحنى ظهره، كان مشهوراً يقولون إن أصله من المكة أو من المدينة. سمعت أن الشيخ قال لوالد جمو: إن أعطيتني عشرة قطع ذهبية (خمسة قطع الآن، وبعدها خمسة) فسأشفي ابنك... وافقه والد جمو وقال له: إن اشفيت ابني فسأقدم لك كل ما أملكه...).
اعتقد كل واحد أن الشيخ سيشفي جمو من مرضه، كنت الوحيد لم أصدقه، كنت أعرف مرض جمو أكثر من الشيخ.
عندما أخذوا جمو إلى الشيخ، طلبني الشيخ معه وسألني عدة أسئلة: عندما دخل جمو إلى المغارة كم كان يبعد مكان سقوطه عن الزاوية اليسرى، وكم كان يبعد من الزاوية اليمنى؟ كان ينظر إلى كتابه ويكتب بقلمه يضع رسومات ويضع نقاط عليه ويهز رأسه ثم يقول :فهمت. . . من أين ضربه الجان . . . هذا جن شيطاني، يقولون له: (بولوتوخ).
ثم كتب على أظافر أيدي وأقدام جمو بقلمه بعض الأشياء وقال: (سجنت الجن في جسمه، لن أتركه حتى أقتله أحضروا لي حزمة من العصي الرطبة).
أحضر غلامه (دلو) حزمة من عصي الرمان الرطبة، حمل أقدام جمو ورفعه عالياً، وكان الشيخ يضرب أقدام جمو البائس وتنكسر العصي، ارتفع صراخ جمو الذي لم يستطع التكلم حتى ذلك الوقت عالياً، كان الشيخ يقول: (هذا ليس صوت جمو، لم يتكلم بعد)وبدأ الشيخ يضرب ويقول
يا عفريت... يا شيطان... أين ستهرب مني) وبلغة الجان يسأل بعض الأسئلة. تيماتم... تناتن... شن... شن. سال الدم من أقدام جمو البائس، عندما كان يضرب جمو، يصعقني كالبرق، لم أتجرأ أن أقول الحقيقة. لم يمض النهار، مات جمو البائس من شدة الضرب.

* * *
مضت على هذه الحادثة عشرون سنة أو أكثر. ولم أزل أذكرها، أصبحت لي مصيبة، تضخمت في داخلي كعقدة وأحدثت جرحاً في قلبي... جرحاً عميقاً. يزداد كل سنة ألمها، تهتز روحي من أجلها... أرى جمو أكثر الاحيان في حلمي، يقف أمامي ذليلاً منكسر الخاطر ويقول لي مشتكياً: خيانة... خيانة .