Kurd Day
Kurd Day Team
______________________________________________
*مجلة روناهي العدد /28/ السنة 1945 الصفحة 23، 24 .
الخاتمة / النهاية
عندما يكون المرء غير راض عن نفسه، ويشك في مستقبله، فيلتفت إلى الوراء، ويتمعن في أيامه الماضية كعجوز مهترىء يقلب صفحات حياته ولايريد الموت، لكن يفكر في أيامه الماضية، يتذكر شبابه وطفولته، هكذا يعزي نفسه .
لقد أصبحت أنا مثل أولئك العجائز، أصبحت شاباً عجوزاً أتأمل مستقبلي وما يخبئه لي الأيام القادمة، سراب وشكوك، يلفني الآن ضباب وغبار. أتذكر مثل ذلك العجائز البالية الرثة أيضاً الذين قضوا أيامهم الماضية وخاصة أيام الطفولة، تصدر آلاف الحسرات والآهات من قلبي، واستمد منها لذة النفس، أجمع اليوم أشتات الأوراق الممزقة من تاريخ حياتي، أحاول إعادة ترتيبها، كي أصنع منها كتاب السعادة. تتنوع صفحات كتابي وتتعدد من القسم والذنب، والايام الماضية والنهاية (الخاتمة) لتشكل مجموعة صفحات يضم في كتابي الحزين، ويزداد الكتاب غنىً وتنوعاً، ورغم ذلك تبقى صفحات ممزقة، والخاتمة صفحة من تلك الصفحات.
حدث ذلك قبل خمس وعشرين سنة خلت تعداداً بالاسابيع والأشهر والسنوات:حدث فجأة داخل بيتنا خبر أو نبأ شاع وانتشر. توفي أخي فتحي بعد مرض قصير جداً دام ثلاثة أيام وفتح باب العزاء، وأنتشر البكاء، كان فتحي يصغرني ببطن واحد فقط، يصغرني بـ سنة ونصف سنة كان ضخماً ذا عيون سوداء، وسحنة بيضاء، أطول مني قامة.
تأثرت بموته أكثر من أي شخص آخر، لأنني كنت أحبه كثيراً، وكنت أعتبر نفسي مذنباً تجاهه ومسؤولاً عن موته.
توجد عادة في بلادنا، بحيث تجمع كل عائلة الفواكه الصيفية والخريفية، وتحفظها في الدنان والخوابي، وتحكم اغلاق الفوهة، ثم يخرجونها في رأس السنة، لا تذبل الفواكه ولا تيبس (تجف)، بل تبقى طازجة وطرية . جمعنا نحن أيضاً الفواكه الصيفية، وحفظناها في تلك السنة، وقد ملأنا ثمانية دنان كبيرة، وأغلقنا أفواهها باحكام، توافد الأصدقاء والعائلة أجمع إلى بيتنا في رأس السنة، وانتظر الاطفال الصغار بفارغ الصبر ورغبة ملحة أمام فتح مراسيم الدنان. عندما دخلت والدتي إلى مخزن المونة، فرأت دناً مفتوحاً وفارغاً من محتوياته، خرجت فوراً، وأمسكت بكتفي ثم هزتني غاضبة ، وقبل أن تسألني عن أي شيء بعد! قلت لها
فتحي، فتحي هو الذي فتح الدن، ووزع الملبن على أولاد الحارة...) لم يكن فتحي موجوداً في البيت، بل كان ذاهباً إلى عمته في رأس السنة، وعندما عاد، أمسكته والدتي دون سؤال وصفعته بقوة على وجهه، لم يكن يعرف المسكين شيئاً، فبكى بصمت عميق. لكن في الحقيقة أنا الذي كنت قد فتحت الدن، سحبت ما في داخله من الملبن تدريجياً بيدي، لكن لم آخذه لنفسي، بل للحكواتية المذنبة (المرأة التي كانت تروي لنا الحكايات): خجة.

كانت خجة تروي لنا الحكايات.... لديها طفلان يتيمان، ابنها وابنتها، كانت خجة تدبر أمور معيشة طفليها ومعيشتها عن طريق رواية الحكايات، كانت غرفتها تمتليء في الليالي الشتائية من الأطفال أمثالي ذوي الأعمار /6 ـ 7/ سنوات، وكنا نحن الذين نقدم لها الطعام والشراب والسجائر والأقمشة، وقد كنت مكلفاً بتقديم الفواكه الشتائية في تلك السنة، كنت أخدع والديّ في كل ليلة وأتحجج بأنني سأذهب إلى صديقي خورشيد في المدرسة. وسأدرس معه دروسي، كنت أمر من دهليز ضيق ومظلم إلى المستودع، وأملأ جيوب جاكيتي ومعطفي بالملبن والباقسمة، وأفرغها أمام خجة التي ستروي لنا الحكايات. كانت خجة تقول لي دائماً
أحسنت ياولدي، أحسنت) لم تبدأ خجة برواية الحكايات مالم يكتمل عدد مستمعيها، كانت تتجول بنظراتها حولها وتقول :

ـ هل سادو هنا ؟ أين رمو ؟ لماذا تأخر جمو ؟.
يحضر المستمعون الواحد بعد الآخر، ثم تبدأ هي برواية الحكايات، لا تمل خجة ولا تتعب من رواية الحكايات، ونحن أيضاً بدورنا لا نشبع (نرتوي) من الحكايات، تخفض صوتها في بداية الأمر، ثم يرتفع صوتها تدريجياً، كنا نتمدد على الأرض كي نسمع الحكايات بشكل جيد، وأحياناً نريد أن نقترب منها، وبعد أن يرتفع صوتها لم نكن بحاجة إلى الاقتراب، كلما تحمست خجة شَدتْنا إليها، وتنتقل روح العدوى إلينا، كانت أيدينا تتحرك دون علم منا، فتتحول الغرفة إلى حمام ساخن من شدة حرارة النار وزفير الأولاد. تشعل خجة السيجارة تلو الآخرى، وتسحب نفثاً منها بعمق، تخرج الدخان من أنفها وتقول بعد ذلك:نعم ، إلى أين وصلنا
كان الأمير محمد شاباً في العشرين من عمره، رأى في حلمه ابنة ملك الجان، فتخلى عن الحياة من أجل حبها، وهام على وجهه في البراري، صادفه في الطريق سبعة عفاريت، شهر الأمير محمد سيفه ذا الحدين وقطع رؤوسهم الواحد تلو الآخر).

كانت خجة تروي لنا حكايات الجان والعفاريت، والحوريات والافاعي، وكنا نستمع إليها بصمت قلباً وقالباً، ونندهش من قوة أبطال هذه الحكايات.
كنت أحب كثيراً حكايات العفاريت ، وأقول لنفسي: آه ياليتني، أصبح ذات يوم مثل الأمير، وأصبح بطلاً لحكايات العفاريت، وليكن لي سيفٌ ذو حدين، كانت روحي تهتز لسماع هذه الأساطير، وكان قلبي يرتعش بهذه الحكايات .
بعد أن ضُرِب فتحي من قبل والدته، ذهب بصمت إلى زواية الغرفة وجلس فيها وتأثر ، تغير وجه فتحي وانتابته حمىً ساخنة، لم يستطع أن يتحرك من الفراش، واشتدت الحمى عليه في صباح اليوم التالي، لم يستطع الكلام وقد انعقد لسانه، أحضر والدي له الطبيب، فكتب الطبيب الأدوية وقال: (لاتقلقوا، إنه مرض خفيف من نوع الكريب). لكن للأسف لم يفتح أخي العزيز عينيه ورحل عن الدنيا في اليوم الثالث، وتركنا في البكاء والنحيب والتعزية. نعم، مضت خمس وعشرون سنة، ومازالت هذه النهاية الحزينة تسمم حياتي وتقلقني، وأنا بدوري أدعو على تلك العجوز التي كانت تروي لنا الحكايات بألف مصيبة وكارثة في نفسي. لكن، إن كانت ـ تلك العجوز ـ حية ترزق، فلدي الرغبة الجامحة أن أرها ثانية وأقول لها:
ـ أنا أيضاً وقعت في الحب، حاولي أن تحشريني في الاماكن الضيقة والمظلمة، دخلت أنا إلى عالم العفاريت والافاعي، وأحاربهم، لكن ينقصني شيء واحد فقط هو السيف ذو حدين كسيف الأمير محمد .
14/4/1943 ـ الجديدة