جوان
مراقب و شيخ المراقبين

اجواء رمضان فى لبنان
ثمة مذاق خاص لشهر رمضان المبارك في مدينة طرابلس اللبنانية، وتكاد تكون الوحيدة من بين سائر المدن التي ينتبه الداخل إليها، ولا سيما (الأحياء القديمة) منها إلى حضور الشهر بكامل طقوسه ومظاهر
إتمامه والاحتفال به.

فالمدينة الساكنة سكوناً يشبه موتاً مؤجّلاً تدب الحياة في أوصالها، وتُبعث الروح في اليوم الأول من الشهر الذي ينتظره المؤمنون حولاً كاملاً. وكأن طرابلس مدينة انسحبت من حاضرها، أو جعلوها على مسافة منه، لتظل في برازخ الإيمان والتقوى والزهد، وهنا قد (تكمن فرادتها) ومن هذه البرازخ تستمد مقاومتها للتهميش وقدرتها الخارقة على الحياة والتواصل مع كل ما هو قائم فيها.

وفي الأحياء القديمة من المدينة تعرض المحال على اختلاف أنواعها أجود الأصناف من البضائع والحاجات التي يستهلكها الناس في الأيام العادية من السنة. إلا أنها تختلف وتتباين في شكل لافت في رمضان، حيث تتألق، وتزهو وتصبح أكثر نظارة، وأكثر قدرة على اجتذاب المستهلكين، إذ أن لشهر الصيام هيبةً ووقاراً، وسلوكاً، يشيع مناخاً من الود بين البائع والزبون.

وعلى طول شارع "الحتة" وهو أحد الشوارع الأكثر قدماً في المدينة القديمة الرومانية الأساس، المملوكية التاريخ والحاضر تنتشر سائر بسطات الخضار والفواكه، والحمضيات، والتمور والفواكه المجففة، والمرطبات الشعبية كخرنوب، والسوس والتمر الهندي، والجلاب والتوت، وماء المشمش المجفف "قمر الدين".
بائع الخرنوب او الخروب

كما وتنتصب في أماكن متفرقة من هذا المشهد مناسف كبيرة من "المغربية" وهي إحدى المآكل الطرابلسية - الشعبية، التي تتألف من "سميد" مدعوك على شكل حَب الحمُّص، يضاف إليه الحمُّص الحقيقي والبصل المسلوق، ثم يُقلّى بالسمنة، وهي إحدى الأطعمة الغائبة طيلة أيام السنة عن حياة المدينة لتحضر في شهر رمضان.
كما وتقف مزهوة متباهية بفتنتها الأصناف الشهيرة من الحلويات الطرابلسية المتنوعة الأشكال والألوان العريقة، التي تشتهر لها طرابلس، وحملت المتنبي في إحدى زياراته إلى المدينة على أن يقول شعراً فيها ..


الحلويات الطرابلسية تنتظر دورها لتحاّ ضيفة على الموائد الرمضانية
ومن أهمّ المظاهر الرمضانية المتوارثة منذ عصر المماليك، قبل سبعمئة عام، أن عقود الإيجارات للحمّامات العامة في أسواق طرابلس القديمة كانت تستثني شهر رمضان من عقد الإيجار، فيكون على مستأجر الحمّام أن يدفع الإيجار عن أحد عشر شهراً فقط ويُعفى من إيجار شهر رمضان، لأن الطرابلسيين في النهار صائمون، وفي المساء يصلّون التراويح في المساجد، ثمّ يسهرون في المقاهي والمنازيل، ولا وقت لديهم للذهاب إلى الحمّامات، ولهذا كان أكثر الحمّمجية يقفلون الحمّام طوال شهر رمضان، ولا يُفتح إلا ليلة العيد.

والمعروف أنه كان بطرابلس عشرة حمّامات، هي حمّام الحاجب في السُويقة، وحمّام القاضي في الدبّاغة قرب خان العسكر، وحمّام النزهة أسفل جسر اللّحامة، وحمّام العطّار في الملاّحة، وحمّام عز الدين بباب الحديد، وحمّام القلعة، وهو خاص بأنفار القلعة، وحمّام البرطاسي بسوق النحاسين، وحمّام العبد بسوق الصيّاغين، وحمّام النوري بسويقة النوري، حمّام الداوادار بقهوة الحتّة، والحمّام الجديد بالحدّادين، وكانت هذه الحمّامات تشهد إقبالاً وازدحاماً شديدين ليلة إثبات شهر رمضان، وليلة إثبات العيد، قبل أن يتعطّل دورها الاجتماعي في تاريخ المدينة بشكل شبه نهائيّ اعتباراً من منتصف القرن الماضي.

ومن المظاهر الأخرى عدم إجراء عقود الزواج في هذا الشهر المبارك، وهذه الظاهرة لا تزال سارية إلى الآن، حيث يجتهد العروسان في عقد قرانهما قبل حلول شهر رمضان المبارك أو بعد انقضائه في ثاني أيام العيد.

وكان الشهر الكريم قديماً عابقاً بالروحانيات والأجواء الدينية، حيث تكثر مجالس الحديث والفقه والتفسير في المساجد، وكان الجامع المنصوري الكبير يعجّ بالمؤمنين الذين يتابعون الدروس والمواعظ من حلقة إلى حلقة، إذ كان حرم الجامع يشهد أكثر من حلقة علمية في وقت واحد كما كان عليه الحال في الجامع الأزهر بالقاهرة قبل أن تنشأ الجامعة الحديثة. فكان أحد العلماء يعقد حلقة للوعظ بعد صلاة الفجر، وآخر قبل صلاة الظهر، وآخر بعده، وبين الظهر والعصر كان يجلس للحديث والموعظة ثلاثة علماء في وقت واحد كلٌّ منهم في ركن، رئيس البعثة الأزهرية في طرابلس ولبنان، وهي قبل صلاة العصر.

وكانت غرفة الأثر النبويّ الشريف تشهد تلاوة جزءٍ من القرآن الكريم، بعد صلاة العصر من كل يوم، وتمتلئ غرفة الأثر بالحضور الذي يتقدّمهم مفتي المدينة والعلماء، وكانت العادة أن يختموا القرآن كلّه يوم التاسع والعشرين من رمضان تحسُّباً أن يكون الشهر الكريم من 29 يوماً فقط، وعند ختم القرآن الكريم كان يتولّى الدعاء الشيخ ، ويتضمّن الدعاء سُوَر القرآن كلها (114 سورة)، ثم يقوم قيّم الجامع، برش العطور من المسك والزعفران على الحضور، ويعطّر القاعة بالبخور، ويوزّع الحلوى، ويتبادل الحضور التهنئة بختم القرآن، وانقضاء شهر الصوم.

وكان للنساء الطرابلسيات نصيب في الاستماع إلى الدروس الدينية في الجامع، حيث كان يُرفع حاجز من القماش الأبيض في القسم العُلوي الشرقي من الحرم، وبأتي إليه النسوة من زقاق :القرطاوية" فيُصلّين ويجلسن لسماع الدروس إلى صلاة العصر.

أما الظاهرة التي تنفرد بها طرابلس عن غيرها من المدن العربية والإسلامية فهي زيارة الأثر الشريف في الجامع المنصوري الكبير، وهو شعرة من لحية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يتزاحم المؤمنون لتقبيل هذا الأثر الشريف والتبرّك به مرتين فقط من آخر يوم جمعة في شهر رمضان، المرة الأولى عقب صلاة فجر يوم الجمعة، والمرة الثانية عقب صلاة ظُهر الجمعة مباشرة.

الأثر الشريف في الجامع المنصوري الكبير
وهذا الأثر الشريف قام السلطان العثماني "عبد الحميد الثاني" بإهدائه إلى مدينة طرابلس مكافأةً لأهلها على إطلاق اسمه على الجامع الذي يقوم في حارة النصارى، وكان قديماً يُعرف بجامع التفاحي، وتعرّض للخراب، فأعاد الطرابلسيون بناءه بمساعدة من السلطان، ولهذا أطلقوا اسمه عليه فأصبح يُسمّى "الجامع الحميدي"، واتفق علماء المدينة بعد التشاور فيما بينهم أن يضعوا هذه الهدية في الجامع المنصوري الكبير لكونه أكبر جوامع طرابلس، ولوقوع الجامع الحميدي، في ظاهر المدينة، فأقيمت حجرة تحت الرواق الغربي من الجامع وُضعت فيها الشعرة الشريفة، وأصبحت تُعرف بغرفة الأثر الشريف. ويقوم مفتي المدينة بنفسه بحمل العلبة التي توضع فيها الشعرة، وهي معطّرة بالمسك، ويتقدّم الزوّار منها فيقبّلونها تبرّكاًن بدءاً بالرجال، ثم يليهم النساء، ويقف العلماء بجانب المفتي، ويصدح المنشدون بمدائحهم النبوية، ولا تزال هذه الزيارة معمولاً بها إلى الآن.

وعلى رغم المكانة التي تحظى بها العاصمة بيروت، في هذا الشهر من كل سنة، إذ تشهد نوعاً جديداً من أنواع السهر وتمضية الليل عبر إقامة "الخيام الرمضانية"، ويتم استحضار المطربين والمطربات وإشعال النراجيل لإحراق الوقت إلى أن يحين موعد أذان الفجر معلناً الإمساك. ألا أن لطرابلس سهراً عابقاً بالإيمان واجتناب المعاصي والانقطاع والتبتل، وهذه إحدى مسالك العبادات التي دأبت عليها المدينة منذ نشأتها الإسلامية الأولى.

كما وتشتهر بكثرة المساجد والمدارس الإسلامية، والزوايا والخلوات الصوفية، إذ تغصّ هذه الدور بعد أن يفرغ المصلّون من أداء صلاة العشاء، المتبوعة بصلاة التراويح بمشايخ وأتباع ومريدي هذه الطرق المتعددة كالنقشبندية، والمولوية، والشاذلية، والعمرية، وسواها. ففي "الجامع المنصوري الكبير" المملوكي الطراز والهندسة وبناه الخليفة الإسلامي المملوكي السلطان الكبير المنصور قلاوون، المشيد على مساحة تناهز الثلاثة آلاف متر. يحتشد في ردهاته وصحن بهوه الفسيح يومياً من الشهر الكريم المئات من المعوزين المحتاجين أخذ الهبات والصدقات التي اعتادوا عليها من محسنين هم أيضاً تعودوا على إنفاقها وعطائها؛ إذ أن الموعد السنوي المعقود بين الطرفين هو في مثل هذا الشهر من كل سنة.

وتقام في نواحي متفرقة من هذا المسجد البديع التصميم، الضخم المساحة "موائد الرحمن" التي يتجمع حولها الصائمون ممن هممنأبناء المدينة، أو من أبناء المناطق والقرى المحيطة بها، أو ممن يفدون إليها من متصوفة أتراكاً وسوريين وعراقيين، وذلك تواصلاً ووداً وإحياءً لتقاليد وطقوس درج عليها كبار مشايخ هؤلاء. كما وتحظى طرابلس في شهر رمضان بزيارة نخبة من المستشرقين المهتمين بدراسة تاريخ الظواهر الإسلامية سلوكاً تشريعياً، وطقوساً وتقاليد أصبحت مع الزمن جزءاً من حضارة المدينة، التي كانت في زمن المماليك عاصمة إحدى الحق الإسلامية المملوكية بامتياز. ويعكف هؤلاء الرحالة المستشرقون على الإقامة في الأحياء القديمة من المدينة ليكونوا على مقربة مما يجري من حركة حياة في المساجد، والزوايا والخلوات الصوفية، للإطلاع على أنماط الحياة، وطرق عيش الناس، والأساليب التي استمروا يقلدونها عبر مئات السنين.

ولعلّ أكثر ما يجتذب انتباه هؤلاء هو تلك الأشعار التي يرددها المغنون والمنشدون الدينيون في مديح النبي (صلى الله عليه وسلّم) في ألحان عربية أصيلة وإيقاعات مضبوطة تحقق للسامع صفاءً روحياً وزهواً نفسياً واعتداداً إنسانياً يميزه بحسبه (صائماً مختاراً خصَّه الله بغذاء قد لا يتوافر لسواه من المخلوقات).
وما أن يقترب موعد الإفطار تبدو المدينة شبه خالية من حركة المارة والسيارات، لتصدح أصوات المقرئين عبر المكبرات المنصوبة على المآذن. وعلى رغم إعلان آذان المغرب إيذاناً بالإفطار، إلا أن الكثير من الصائمين لا يفطر إلا حين يسمع صوت المدفع ودويّه يملأ الأرجاء. وما أن تبتلّ العروق ويتناول الناس حاجتهم من الطعام يعودون من جديد إلى ضخ الدماء في أوصال وشرايين المدينة، عبر حركة السيارات التي تصخب وتكثر، عبر حركة المتحولين، والمتسوقين، الذين لم يتمكنوا من ذلك أثناء النهار، إذ أنهم ينصرفون إلى أعمالهم وتحصيل أرزاقهم، حيث يدركون العصر خائري القوى، منهكين، ومعظمهم يتوق إلى الاستسلام لقيلولة ما قبل الإفطار.
وفي أعقاب صلاة العشاء يبلغ الازدحام في الشوارع حداً غير معهود في النهار، ويتوزع الناس في الأسواق القديمة، حيث المقاهي الشعبية ومحال الحلويات والمرطبات، ويزدحم كورنيش "الميناء" بعربات الذرة المسلوقة والمشوية. وعربات الترمس، والعصائر على أنواعها. وعلى قرقعة فناجين حملة مصبات القهوة، ومع عذوبة أصوات المنشدين والمقرئين، وتحت ظلال الأضواء المتماوجة على صفحة الشاطئ يروح المتنزهون يذرعون الرصيف جيئةً وذهاباً، وحداناً وزرافات.

مدفع القلعة، ينتظر بصمت قدوم شهر رمضان المبارك.

سهرات ومجالس وتقاليد
---------------------------------------------
الحديث عن طرابلس الشام شيّق للغاية، خصوصاً إذا ما تناولها الباحث من الجانب التراثي فيها. فتراث طرابلس عريق للغاية من عهد الكنعان الفينيقيين العرب، إلى زمن المماليك والعثمانيين المسلمين. وبين هذين الزمنين، تقع دولة الأمويين والعباسيين والفاطميين والصليبيين والأيوبيين.
ويذكر الباحثون والأثريون أن طرابلس تعتبر ثانية المدن العربية بالآثار المملوكية بعد القاهرة. فهي تضم أكثر من 130 مبنى أثرياً من جوامع ومدارس وحمامات وخانات وأسواق ومزارات وزوايا، وجميعها آثار إسلامية مملوكية وعثمانية.
ويعتبر الجامع المنصوري الكبير الذي بناه الأشرف خليل بن قلاوون سنة 1294م. ونسب إلى الملك المنصور فاتح طرابلس هو أعظم مساجدها الأثرية التي تعدّ ستة عشر مسجداً. أما مدارسها الإسلامية الأثرية فعددها سبع وثلاثون مدرسة. وعدد حماماتها الأثرية ثمانية حمامات. وعدد خاناتها ستة خانات. وعدد مزاراتها وزواياها يبلغ العشرة بين مزار وزاوية. وعدد سبلها وبركها الأثرية 18 سبيلاً وبركة. أما أبراجها فعددها ثمانية. ناهيك عن قلعتها العظيمة المعروفة بقلعة "سنجيل" والتي بنيت على حصن سفيان الأموي، وآثارها الأخرى المتنوعة والمتمثلة باللوحات الأثرية والبوابات والقناطر والمنازل المعلقة فوق الأسواق والدكاكين القديمة والقبوات والأدراج والأجران والبرك في الخانات والساحات القديمة. مما يجعلنا نؤكد أن المنطقة الممتدة من جامع التوبة شمالاً إلى الجامع المعلّق جنوباً وصولاً إلى الجامع المنصوري الكبير، تعتبر بأكملها منطقة أثرية متكاملة. وقد ذكر الخبراء والأثريون أن أسواق طرابلس القديمة يبلغ طولها ثلاثة
كيلومترات على أقل تقدير.

رمضان في الربوع الطرابلسية
والواقع إن من يزور طرابلس الشام في شهر رمضان المبارك، يجد كأن حدثاً عظيماً قد جرى. فتتحوّل مثلاً حياة الناس وعاداتهم ونظم حياتهم اليومية، فتأخذ مظاهر وتقاليد وعادات جديدة، تظهر فجأة، وتجعل الناس جميعاً في تسارع مع الوقت، بكل فرح وغبطة وحركة نشيطة.
واعتاد الناس في طرابلس، أنهم حين يشعرون بقرب قدوم رمضان، أي في الأيام الأخيرة من شهر شعبان، يتهيأون لسيران رمضان في آخر يوم عطلة من شهر شعبان. فنراهم يخرجون إلى الطبيعة لقضاء يوم كامل في البساتين والحقول والجبال المجاورة. وكثيراً ما نرى العائلة تصطحب معها طعامها: المشاوي على أنواعه والتبولة والقهوة والنارجيلة والبزورات الطازجة إضافة إلى المشروبات الحلوة والفاكهة الطازجة. ومن ثم يعقدون حلقات الفرح والعزف والتواشيح وتداول جميع الأنواع من ألعاب التسلية والمرح. وقد سميت هذه العادة "سيراناً"، لأن الناس كانوا يعتمدون السير على أقدامهم باتجاه بركة البدّاوي التي يتيمنون بها وبأسماكها، أو برج رأس النهر أو مطل الشرفة في أبي سمراء باتجاه المولوية، وهي خلية صوفية، كانت زاوية لفرقة المولوية الصوفية الشهيرة.

ثبوت الهلال
ويعتبر التماس هلال رمضان من التقاليد المتوارثة في المدينة الشامية. ويذكر الطرابلسيون أنه مع غروب شمس التاسع والعشرين من شهر شعبان، كان المسؤولون يذهبون إلى دار المفتي بطرابلس، ينتظرون الإبلاغ عن رؤية هلال رمضان.
ويكون هناك نفر من أبناء المدينة يتطوّعون لالتماس الهلال في ثلّة قريبة من القلعة تعرف ب"ثلّة الزعبيّة". وقد يخرج معهم بعض أعيان المدينة. وعند ثبوت رؤية الهلال، كانوا يبلغون المفتي بذلك، فيشهد الشهود، ويوعز إلى "المدفعجي" في القلعة أن يطلق من مدفع القلعة سبع طلقات. ثم تخرج نوبات الصوفية لتجوب الشوارع، وتوزع الأشربة في الأسواق وخصوصاً قرب بركة الملاّحة أو بركة الصاغة بصورة مجانية على الناس.
وتعتبر ليلة أول رمضان، ليلة مميزة بعد الإفطار، ولها وقعها الخاص في النفوس. إذ يسرع الناس في المساء إلى تهنئة أقربائهم بحلول الشهر الكريم، وخصوصاً المسنين منهم، وبعد منتصف الليل، يظهر "المسحراتي"، ويطوف على الدور، ويتولى مهمة إيقاظ النائمين، ويدعوهم لتناول السحور. وكان له رونقه الخاص في الأحياء الشعبية. أما في القديم، فكان أحد عقلاء الحيّ هو الذي يتولّى هذه المهمة. إذ يأخذ بالطواف بطبلته مترنماً بما يتيسر له من المدائح النبوية. وكان يتوقف للحظات ينادي أهل الدار قائلاً لهم: "وحّدوا الله". وكثيراً ما كان ينادي على صاحب الدار بالاسم. ومن العائلات التي ظهر منها المسحراتي في طرابلس: القدوسي والغندور واللوزي والزاهد والبيروتي. وبعد تحضير طعام السحور وإقبال العائلة على المائة والانتهاء من ذلك، كان يخلد الجميع إلى النوم. وغالباً ما كانت تتأخر الحركة في الشارع في صباح اليوم التالي.

المائدة الرمضانية الطرابلسية
وتعتبر المائدة الطرابلسية، مائدة لها تراثها العريق عند جميع العائلات، وهي مميزة وغنية، ولذلك اكتسبت شهرة عظيمة بين جميع الأوساط في محيط بلاد الشام. وكانت هذه المائدة تزين أول ما تزين بحبات التمر، ليتناولها الصائم قبيل الوجبة الرئيسية. ويتصدّر طبق الحساء المائدة أيضاً، لأن الصائم يحتاج لترطيب معدته وتحضيرها.
أما طبق "الفتة"، فكثيراً ما يشتريه الناس من محلة باب الحديد، وهو يشدّ الأنظار بلونه المميز: اللبن الأبيض الممزوج بالطحينة والحامض والثوم والسمن المغلي والصنوبر المحمص والبهار. وإلى جانبه البصل والفجل والكبيس المشكل.
أما "طبق الفتّوش"، فهو أيضاً مميز في رمضان طرابلس. وكانت ربّة المنزل تتقن تزيينه وتشكيل خضاره وتحسين طعمه بدبس الرمّان والزيت الفاخر. أما صحن "الكبّة النيّة" فله مكانه اليومي على المائدة الرمضانية بطرابلس. وكذلك صحن المغربية "الكسكس" و"جاط المخلل"، الذي يبتاع عادة من سوق القمح أو سوق العطارين لاختصاصهم به. وهو يتكوّن من اللفت والخيار والقيثاء والباذنجان والفليفلة والملفوف والقنبيط.

بعض أطباق مائدة رمضان: الحمّص، الفتّة، البابا غنّوج، التبّولة، الفتّوش، الكبّة النيئة، وغيرها

أما الأشربة الرمضانية الطرابلسية، فهي أيضاً متنوعة ومميزة. وهي تنتشر على بسطات السوق في طرابلس منذ أول أيام رمضان، وتشتمل على شراب التوت والخرنوب والسوس والعصير (ليمون، جزر، تفاح وأهمها ما يعرف بالليمون الأفندي). وتكاد أن تكون هذه البسطات من السمات الرمضانية الطرابلسية القديمة في المدينة. أما شراب القمر الدين فهو شراب طرابلسي شامي مميز.
ولا ننسى أيضاً الحلويات الطرابلسية المميزة في رمضان، فهي تتشكل من "حلاوة الجبن الطرابلسية الشهيرة و" حلاوة الشميسة" "الكنافة" و"زنود الست" و"ورد الشام" و" الملبن" و " الجزرية "والكلاج والكربوج وصحن المهلبية وأقراص البرازق، والتي ينادي الباعة عليها
في الأسواق القديمة، وأحيائها الشعبية العريقة.

تراث رمضاني طرابلسي
----------------------------------------
ومن تراث رمضان بطرابلس، "السكْبة" التي يسكبها البيت لجيرانه قبيل الإقفطار في رمضان. وتعتبر "السكبة" من تقاليد المدينة العريقة. وهي متوارثة عن الآباء والأجداد. وهي تكون بسكب صحن من الطعام كل يوم للجيران والأقارب والفقراء بصورة خاصّة.
فقبل مدفع رمضان، تجد صبية الأحياء، يحملون الصحاف الملأى بأصناف الطعام، تسكبها ربات البيوت. فتراهم يطوفون بها على أبواب الدور، يقرعون بشدّة، والفرح يعتمر في قلوبهم والابتهاج والحبور يضمران النفوس. وتوزّع "السكبة" عادة عن أرواح الموتى أو مساعدة للجارة الحامل لأنها لا تقدر على تحضير "سفرة رمضان" مثل غيرها بسبب "وحامها"، علماً أن الصحن عادة، لا يعود فارغاً. وإذا بالمائدة في البيت الواحد، تصبح غنية بأنواع السكبات المختلفة الألوان، من دور الجيران ومطابخهم.

سهرات ومجالس رمضانية
وكانت السهرات الطرابلسية في رمضان مميزة للغاية. فقد كانت تجري قبل أن يظهر التلفزيون، في المقاهي الشعبية، حيث تروى سيرة عنترة والزير سالم والمهلهل وفيروز شاه وسير الظاهر بيبرس وحكاية ألف ليلة وليلة، وغيرها الكثير من القصص الشعبي الغني والمتنوّع. وفي مطلع القرن العشرين، كان الشيخ محمود الكراكيزي، يتولّى تقديم حوارية "كراكوز وعيواظ" في لعبة خيال الظل التي كان قد برع فيها. ولم تغب مظاهر السهرات الشعبية من أحياء مدينة طرابلس القديمة حتى زمن قريب جداً.
أما مجالس الوعظ الديني، فكانت تكثر في المساجد والجوامع والتكايا والزوايا. وقد عرفت أحياء طرابلس أكثر من 20 تكية وزاوية صوفية، كما بلغ عدد مآذنها المئة مئذنة. ومع بداية شهر رمضان، يبدأ الصائمون بالتوافد إلى أبواب المساجد، ليفيدوا من دروس الوعظ والإرشاد التي تنظمها دائرة الأوقاف الدينية عقب صلاة العصر من كل يوم. كذلك نرى الحلقات الصوفية في الزوايا تتسع لعدد كبير من المريدين. وفي الجامع المنصوري الكبير، تبرز زاوية خاصة كان يعقدها منذ زمن طويل الشيخ محمود مملوك المعروف ب"أبو العبد"،والذي وهبه الله علم أحكام التلاوة، تعلّمها من عدد من مشايخ طرابلس المشاهير. وقد ظلّ ينفرد بميزة استقطاب الطلاب الذين يعلمهم أحكام التلاوة. وكان يقدّم للمجيدين منهم، هدايا فورية من أقلام وقرطاسية وسكاكر تمتلئ بها جعبتهم من عطاءات العارفين بدورهم في المستقبل.

الأسواق الرمضانية الخاصة
وفي رمضان من كل عام نرى طرابلس القديمة تشهد ظاهرة الأسواق الرمضانية الموسمية في شوارعها الداخلية وأحيائها الشعبية، فتغصّ الشوارع القديمة وقبواتها وبسطاتها بالناس، ويكثر الازدحام وتعلو أصوات الباعة، ويتعفف البائعون والمتسوقون، وتتضوّع رائحة العطور الزكية في كل الأنحاء، تذكر جميعها بالطهر والعبق السنّي.
ونحن نرى كيف يرتاد الناس قبيل صلاة العصر، سوق العطارين، ليتنسموا أجواء رمضان، وتبتهج نفوسهم بالرائحة الزكية، فيوحدون الله ويصلون على نبيّه الكريم. كذلك يزدحم المارة في سوق القمح لابتياع الخضار والفاكهة والأشربة وجاط المخلل. وأنت تجد بينهم أيضاً، الفضوليّ والمتسوّق وعابر السبيل. وأهم ما يلفت الانتباه في السوق، البسطات التي تنتشر بكثرة على الجانبين، تغري الصائمين، نظراً لما تتصل بها من عناصر الزينة المختلفة والتي تشدّ الأنظار وتستدعي الفضولية


ازدحام السوق في رمضان

المسحراتي
--------------------------------------------
وحكاية "المسحراتي" الذي كان يخرج مع مجموعة من المنشدين في أواخر الليل من رمضان، لذيذة وطريفة. فقد كانت له شخصيته المحببة إلى القلوب. وكان يتمتع بصوت شجي، يرسل به دعواته وأناشيده وعظاته. وغالباً ما يكون بصحبة عدد من رفاقه يشكّلون جوقة الإنشاد التابعة له. وهو يجوب الشوارع والأزقة، ويدخل الأحياء، فيقرع أبواب البيوت، ويتوقف هنا، ويتمهل هناك، حتى يستيقظ الناس و"يوحدوا الله" وهو يدعوهم بصوت عذب لتناول طعام السحور لأنه من السنّة.
وعلى وقع الطبلة التي يحملها المسحراتي،ونقر الدفّ الذي يحمله مرافقه، وصوت الصنج الذي يضرب بين الحين والآخر، كان الناس يستيقظون، فرادى وجماعات، يشعلون أضواء المصابيح والفوانيس،ويوقدون النّار ويحضرون الموائد للسحور. ويستيقظ الناس جميعاً، كما لو أنهم في ساعة من ساعات النهار، وتعلو القرقعات وتتململ الأحياء، وتتقلّب جنباتها بالناس من كل حدْب وصوب

.
بعثات واستقبالات
--------------------------------------
وطيلة شهر رمضان، كانت طرابلس تستقبل رجالات الدين والبعثات الدينية. فكان يأتي إليها سماحة الشيخ نديم الجسر، ليستقبل الشيخ علي شيخ العرب، الذي كان مفتي الجيش في اسطنبول. فتقام الحلقات الدينيّة،وتتلى آيات الذكر الكريم، ويستتبع ذلك خطب الوعظ والإرشاد.
وفي أواسط الخمسينات استقبلت طرابلس في شهر رمضان المبارك، المقرئ الكبير، فضيلة الشيخ مصطفى إسماعيل، الذي قدم إليها من القاهرة، فاستقبلته دائرة الأوقاف وجمعيّة المكارم الأخلاقية وحلّ بضيافة فضيلة الشيخ عمر الرافعي. وقد قرأ القرآن الكريم في الجامع المنصوري الكبير، فاحتشد الناس في المسجد، حتى وصل العدد إلى نحو عشرة آلاف رجل. إذ سارع معظم أهالي طرابلس لسماع قراءته وتجويده. والتفّ حوله المقرؤون الطرابلسيون، مثل الشيخ محمد صلاح الدين كبارة (رحمه الله) والشيخ نصوح البارودي (رحمه الله) ومعظم الحفظة الكرام من الشيوخ الأجلاّء.
ومن التقاليد الاجتماعية والدينية في هذا الشهر الفضيل، أن معظم الجمعيات الدينيّة ذات الطابع الخيريّ، كانت تقيم احتفالاً في يوم من أيام الأسبوع في مربع الشاطئ الفضّي، من أجل جمع التبرعات من المحسنين، ويكون ذلك لمرة واحدة لكل جمعيّة طيلة شهر رمضان. وتقوم هذه الجمعيات بدعوة رجالات طرابلس وتجارها وأرباب الأموال فيها. فنراهم يلبّون الدعوة بسخاء وكرم منقطع النظير.
الرحالة الشيخ القاياتي بطرابلس في رمضان
وفي كتاب "نفحة البشام في رحلة الشام" يذكر الرحّالة الشيخ محمد عبد الجواد القاياتي، أنه زار طرابلس في رمضان أواخر القرن التاسع عشر، فهرع لاستقباله جلة علمائها الأفاضل في ذلك الوقت: الشيخ عبد الغني الرافعي والشيخ عبد الرزاق الرافعي والشيخ علي الميقاتي والشيخ رشيد الميقاتي والشيخ حسين الجسر نجل الشيخ محمد الجسر. والشيخ عبدالفتّاح الزعبي والشيخ محمد القاوقجي.
ويفرد الشيخ القاياتي صفحات طويلة للقائه بهؤلاء العلماء الأفاضل في هذا الشهر الفضيل، ويصف طرابلس التي لبست حلة العيد، فيتحدّث عن بساتينها النضرة وأشجارها الفوّاحة ومتنزهاتها في المحل الذي يسمّى بالتل، "وهو في الحقيقة تل مشرف على أرض حمراء وبساتين خضراء ومياه زرقاء". وأظن أنه كان ينزل في المقهى العثماني الكائن في ذلك التل.
ويتحدّث القاياتي عن سائر محال طرابلس فيقول:"ومحل دوار القارب في خارج البلد، قريب من التبانة في الشمال الشرقي من البلدة، على شط غدير صغير، وعليه جسر نضير، وحواليه بساتين زاهرة ناضرة، تقرّ به كل عين ناظرة. ومحل القلعة، موضع مشرف على سائر بيوت البلد وأسواقها ومساجدها وبساتينها ومزارعها. وفيه قشلاق للعسكر، ومقبرة قديمة، بها قبول السادة الزعبية. والجالس فيه يرى البحر والميناء وما بينها من المساكن والجناين".
ويقول أنه زار تكيّة المولوية في رمضان، فدهش بها، فهو يقول: "وفي منخفض الوادي من الجهة الجنوبية منها، محل نضير فيه تكية، تسمّى تكية المولوية. من أعظم المنازه أيضاً، لأنها على شاطئ الوادي. وتحتها الأنهر المنحدرة إلى البلد، وعليها طواحين كثيرة، وأشجار نضيرة. وفي هذا المحل نفسه بركة ماء بنافورة عظيمة، ترى المياه منها دائماً مدفوعة لا مقطوعة ولا ممنوعة".
.. والحديث عن السهرات الرمضانية في طرابلس، سواء في المنازل أو خارجها، حديث عذب وشيق. وقد وقف الرحالة القدماء على كثير من الأماكن الطرابلسية في رمضان، فوصفوا لنا المقاهي والخلاوي وأروقة المساجد وصحونها وباحاتها والأسواق والأقبية. وكيف كانت الأنوار تشعشع في تلك الأمكنة من فوانيس أخّاذة، تبرّع بها الأثرياء وقدمتها دائرة الأوقاف أو الحاكمية. فكانت تبسط أنوارها على معالم الزينة الرمضانية وأقواس النصر والرايات والأشرطة واللافتات في ساحة الجامع المنصوري الكبير مثلاً، أو داخل الأسواق: سوق البازركان وخان الخياطين وسوق الكندرجية والتكايا والزوايا والأسبلة والكتاب.

المهلبيا وتقاليد الوداع
-----------------------------------------
ويتحدّث الرحالة عن تقاليد رمضانية بسيطة عرفتها طرابلس دون غيرها من مدن الشام. ففي رمضان، كان أهلها يصنعون مهلبيا خاصة لأماسي رمضان، توزّع مجاناً في ساحات المدينة وأمام زواياها وخلاويها، وفي صحون مساجدها وجوامعها ومدارسها الدينية. وكانوا يقدمونها على نفقة الميسورين والمقدّمين.كما كانت عائلات أخرى تتبارى في تقديم أشربة وحلويات أخرى بصورة مجانية، إيثاراً لرضى الله تعالى، وابتهاجاً بشهر رمضان المبارك، وذلك طوال أيامه الثلاثين.
ومن تقاليد رمضان المبارك التي لا يزال الناس يتمسكون بها حتى اليوم في طرابلس، جوقة وداع رمضان.. إذ في العشر الأخير من رمضان، تقوم جوقة الوداع بجولة مسائية على الأحياء والبيوت، برفقة المنشدين يهللون وينشدون ويكبرون، ويغنون الموشحات الدينية على وقع الطبلة ونقر الدفوف وإيقاع الصنوج . وغالباً ما تكون جوقة الوداع مطعمة بمجموعة من أصحاب الطرق الصوفية، . ومن شباب جوقة الوداع من يحمل المشاعل، ومنهم من يحمل المصابيح والفوانيس، ومنهم من ينقر على الدفوف أو يهزّ المزاهر. فتنقلب حياة طرابلس في الليالي العشرة الأخيرة من رمضان، وكأنها في مهرجان فرح روحي وديني. وكأن الناس فيها، أعضاء عائلة واحدة

