جوان
مراقب و شيخ المراقبين

حول المخاوف التركية بصدد سوريا
2011-05-03
جان كورد
تركيا الحديثة جارة لسوريا التي كانت في الماضي تابعة للتاج العثماني، وهذا بحد ذاته يثير مشاعر متداخلة وقوية لدى طرفي المسألة. الحدود التركية – السورية تقارب الألف كيلو متر، وهي في معظمها، ما عدا منطقة "جبل الأكراد" سهول خصبة، تسيل لعاب المزارعين الترك الكبار.
بين تركيا وسوريا مشاكل قديمة وحرب بالوكالة انتهت على حساب الوكيل الكوردي قبل عقدٍ من الزمن.
المشكلة الأولى تتعلّق بالحصة السورية من مياه الفرات ودجلة، وإذا تشبّثت سوريا بما هو حق لها، فإن العراق الجار سيعاني من مشاكل وخيمة بسبب نقص حصته من المياه ذاتها، وقديماً هدد صدام حسين سوريا بالاحتلال فيما إذا شحت المياه التي تصل بلاده.. والمشكلة الأخرى بين سوريا وتركيا كانت سلب تركيا لجزء هامٍ وحيوي من سوريا، ألا وهو لواء الاسكندرون، بموجب معاهدة استعمارية بين تركيا وفرنسا المستَعمِرة في ثلاثينات القرن الماضي لسوريا، أي دون إرادة الشعب السوري...
فكانت سوريا تعتبر تركيا، العضو في حلف الناتو، والقوية اقتصادياً وعسكرياً، خطراً كبيراً على نفسها، وعلى الرغم من أن حقول الألغام والأسلاك الشائكة والأبراج العسكرية على الحدود بين البلدين قد وضعت وتمت مراقبتها باستمرار من قبل الجانب التركي لعقودٍ من الزمن، واكتفى السوريون بدوريات جندرمة بسيطة، من طرفهم، إلاّ أن الخطر التركي ظلّ مقلقاً لكل الحكومات المتعاقبة على دست الحكم في البلاد السورية، وقد وصل الأمر إلى تهديدات باحتلال شمال سوريا أيضاً قبيل اعلان الوحدة بين سوريا ومصر في عام 1958.
وبسبب المشكلتين الأساسيتين بين سوريا وتركيا، إضافة إلى العلاقات الوطيدة بين تركيا واسرائيل على الدوام، أعلن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد الحرب على تركيا باستخدام وكيل كوردي هو حزب العمال الكوردستاني سنواتٍ عديدة، إلى أن قام رئيس الوزراء الأسبق بولند أجاويد بالتهديد المباشر بغزو الشمال السوري مالم يكف نظام الأسد عن ذلك، فأضطر الأسد المشهور بدهائه وتمسكّه بحكمه إلى التخلّص من زعيم حزب الكوردستاني، السيد عبد ألله أوجالان، بابعاده عن سوريا وسهل البقاع اللبناني، ولكن هناك من يقول بأنه اكتشف آنذاك نشوء علاقة سرية بين الزعيم الكوردي والحكومة التركية، ما دفعه لاتخاذ تلك الخطوة.
وبدأت حقبة جديدة من العلاقات التركية – السورية، قائمة على توسيع العلاقات المشتركة في الحيّز المتفق عليه باستمرار، ألا وهو "التعاون من أجل منع قيام دولة كوردية" أو " الحيلولة دون امتلاك الكورد لأسباب القوّة التي تؤهلهم للتحرّك صوب طموحهم القومي بالاعتماد على أنفسهم"... وطويت كل الملفات الساخنة ومنها المشاكل بسبب الحدود والماء إلى حين.
ومنذ سقوط الاتحاد السوفييتي وانفراط عقده، تقلّص الدور التركي في الصراع الاستراتيجي بين الغرب والشرق، ولم تعد لتركيا المكانة التي كانت تتمتّع بها من قبل، وبخاصة فإن دولاً من المعسكر الاشتراكي المنحل قد فتحت أبوابها لحلف الأطلسي ولنصب الصواريخ الأمريكية أو لاستخدام مطاراتها العسكرية من قبل الأمريكان.
ثم جاء "الاسلاميون الجدد"، بوصول السيدين عبد ألله غول ورجب طيّب أردوغان إلى الحكم في أنقرة قبل سنوات قلائل، لتنظر تركيا نظرة مختلفة عن نظرة الحكومات العلمانية السابقة إلى الجيران، وبخاصة بعدما فشلت كل تلك الزعامات التركية في تحقيق هدف الانتماء الفعلي للاتحاد الأوروبي أو"النادي المسيحي" حسب تعبير الزعيم الروحي للإسلاميين الترك، نجم الدين أربكان...فإذا بالإسلاميين الترك يتحدثون عن الأخوة التاريخية والعقيدية بين الشعب التركي وشعوب المنطقة، وعن امكانية بناء سوق تجارية واسعة وحرّة وازالة العوائق الجمركية بين تركيا وجيرانها، وساهم في تطوير هذه النظرة الجديدة نشوء نزاعات سياسية بين تركيا واسرائيل بصدد الحرب على غزّة وارسال تركيا لأسطول الحرية صوب فلسطين والرد القاسي لاسرائيل على ذلك، كما شجّع الاستمرار في هذا النهج الجديد النجاح الباهر للشركات التركية في جلب المنافع المالية الضخمة من اقليم كوردستان العراق لخزينة البلاد، مما أسال لعاب التجار الترك وهم ينظرون إلى سوريا التي تحتاج إلى كل منتوج وكل صناعة، بعد طول فترة السير صوب الاشتراكية دون تحقيق أي أهداف إيجابية للاقتصاد السوري.
ولكن الثورات الشعبية العارمة في العالم العربي قد أعادت توزيع الأوراق، وفرضت شروطاً جديدة للعبة ساخنة، فأضطرت تركيا إلى أن تفتح دفتراً جديداً للعلاقات مع الجيران العرب، وبخاصة في العراق وسوريا، وأن تظهر نفسها بمظهر الأب الذي طلّقته الأم من زمن بعيد، ويشعر بأن عليه القيام بشيء ما تجاه العائلة المنفرط عقدها منذ زمن بعيد.
ويجدر بالذكر أن المساعي التركي للصلح بين اللبنانيين ومن بعدهم بين الليبيين قد فشلت، ولم تكن زيارة الرئيس التركي للقاهرة بعد نجاح ثورة وادي النيل إلاّ للتأكيد على أنه لايزال لتركيا دور فعّال في الشرق الأوسط، وفي الحقيقة فإن تركيا بحاجة إلى مصر وليس العكس، والثورة المصرية ماضية صوب أهدافها بدون أي مساعدة تركية حتى الآن.
لقد نجحت الديبلوماسية التركية في العراق إلى حدٍ كبير، فهي الدولة الأكثر استفادة من الغزو الأمريكي للعراق، ورغم أنها وقفت ضده بشكل رسمي، إلاّ أن تركيا لم تتحرّك في العراق سياسياً واقتصادياً إلاّ تحت الغطاء السياسي الأمريكي، والنجاح الأكبر حققته في كبح التطلّعات القومية الكوردية وتأخير وصول الكورد إلى مطالبهم جميعاً، وعرقلت بشكل أساسي حل مشكلة كركوك وتنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي، وأثارت التناحر بشكل عنيف بين مكونات المدنية من كورد وتركمان وعرب، ومارست ضغوطاً هائلة على شركات البترول المستثمرة لكي لاتعقد عقودها مع السلطة الاقليمية في المنطقة الكوردية الفيدرالية مباشرة، ولكن نجاح الكورد في تحقيق المزيد من الانجازات الباهرة على الأرض، سياسية واقتصادية، وتعميق العلاقات مع المركز العراقي ومع العالم الخارجي أجبر الترك على التراجع وممارسة سياسة مختلفة الآن.
تريد الحكومة التركية الحالية تحقيق النجاح ذاته في سوريا،على الرغم من وجود اختلاف كبير بين سوريا والعراق، فسوريا ليست محتلّة والانقسام الطائفي لم يصل بعد إلى ما عليه الأوضاع في العراق، وسوريا ليس لديها بترول كثير كما في العراق، وليست للحركة الكوردية السورية علاقات كالتي كانت بين تركيا وكوردستان العراق، والفراغ الذي تودّ تركيا سده سياسياً في سوريا مملوء سابقاً من قبل إيران، والعرب السوريون لم ينسوا بعد سلب تركيا للواء الاسكندرون، واحتمال أن يتم غزو سوريا من قبل الدول الغربية ضئيل لحد الآن، ثم إن سوريا تقع على الحدود مع اسرائيل، مما جعلها نقطة ساخنة للنزاع في المنطقة، فأي خطوة تركية صوب التدخل في الشؤون السورية ستقابلها خطوة ايرانية وممانعة اسرائيلية – أمريكية أيضاً، إلاّ إذا كانت الجهود التركية في إطار التحرّك الأمريكي – الأوروبي، وليس بشكل مستقل أو منفرد.
هذه الخريطة تقرأها الحكومة التركية بإمعان، ولذلك فإنها تتبّع سبلاً ملتوية ومراوغة ومتعددة في الوقت ذاته، فمن ناحية تظهر نفسها كصديقة للنظام السوري تريد له البقاء والنجاح و"الاستمرار في الاصلاحات!"، وحكومة أردوغان تعلم جيداً أن ليس هناك إصلاحات سياسية حقيقية في ظل هذا النظام الأسدي... ومن جهة أخرى تستقبل وفوداً للمعارضة السورية على أراضيها وتسمح لها بعقد مؤتمرات بهدف تغيير هذا النظام...ومن جهة ثالثة تزعم أنها تحاول الجمع بين المتناقضين في الساحة السورية: النظام والمعارضة، في وقت تشتد فيه أوار المعركة بين النظام المدجج بمختلف أنواع السلاح وبين الشعب العازل. وإذا كانت تركيا صادقة في ادعاءاتها فلماذا لا تأخذ ذات الموقف الذي اتخذته تجاه حصار غزّة تجاه حصار مدينة درعا السورية أيضاً، وتكتفي بالنداءات والمناشدات الباهتة؟
عيون تركيا على الأسواق السورية بشكل أساسي، وهي تعمل على أن تحتل سياسياً مكانة ايران، المنافسة الشيعية الكبرى للنظام السني – الصوفي للعثمانيين، وتسعى تركيا لأن يتم حذف "لواء الاسكندرون" من الذاكرة التربوية والتعليمية للأجيال السورية الناشئة من خلال التأثير التام على عقول الحاكمين والمحكومين، كما تريد استعادة مكانتها التاريخية كدولة خلافة في المنطقة، بدءاً بأقرب الدول العربية إلى عاصمة الخلافة العثمانية، وهي سوريا، والقضية الأخرى التي تلعب دوراً هاماً للغاية في استراتيجية الحكومة الأردوغانية وتثير الرغبة الحادة في التشاور ضمن مجلس الأمن القومي التركي هي القضية الكوردية في سوريا، حيث تخاف تركيا من أن تحدث القلاقل والاضطرابات في شمال البلاد فراغاً تملؤه حركة كوردية مسلّحة أو يلقى فيه الكورد عوناً وتسليحاً من إخوتهم في أجزاء كوردستان الأخرى أو من قبل دول خارجية...فتتشكّل بذلك منطقة تابونية عازلة بين تركيا والداخل السوري الذي تسعى لاقتحامه، ولذلك فإنها لاتقبل بمعارضة سورية تؤمن بالحق القومي الكوردي تمام الايمان، وترفض أي مطلب كوردي سوري للحصول على إدارة متواضعة لهم في نظام سوري ديموقراطي لامركزي حديث، كالحكم الذاتي أو الإدارة الفيدرالية، حتى ولو اتفق كل السوريين على ذلك. والعقدة التركية الناجمة عن لفظتي "كورد" و"كوردستان" لاتزال معشعشة في عقول وقلوب الطورانيين المتشحين بأردية إسلامية اليوم، مقتدين في ذلك ببقايا البعث الصدامي الذي يظهر نفسه وكأنه فصيل جهادي رباني بعد أن أذاق العراقيين فصولاً لامثيل لها في القهر والإذلال لعقودٍ من الزمن.
وما دمنا نعلم في المعارضة السورية، مدى خطورة تعاظم الحراك التركي الذي لايقل ضرراً عن التوغّل الفارسي في دمشق السورية، فإن علينا رفض النهج التركي - التصويفي، كما رفضنا النهج الفارسي – التشييعي من قبل، للشارع السوري، وعلينا رفض أي تدخّل أجنبي، تركي أو غير تركي، في شؤون بلادنا، دون مطالبة صريحة وعلنية واضحة بدعم دولي من قبل الشعب السوري وثورته لوضع حدٍ لطغيان النظام وكبح جماح قواته الأمنية التي تمارس عنفاً وحشياً وتستخدم القوة المفرطة ضد المدنيين لدرجة قيامه بحصار المدن وتجويعها. ثم إن تركيا ليست وصيّة على بلادنا كما في العهود العثمانية، مثلما ليست ايران وصية على نظام الحكم وشكله وسياسته في بلادنا... وعلينا أن لانقبل البتة بدورٍ تركي في سوريا كما هو الدور الايراني اليوم في العراق، وإلاّ فإننا نائمون ومنخدعون بما ينثره الأردوغانيون علينا من الدرر الخيالية عن الأخوة الايمانية، في حين أنهم يسعون لممارسة دور الأب في المنطقة، وعلى الأردوغانيين تعلّم الدين والدفاع عنه من السوريين وليس العكس..