رد: مختارات غادة السمان
جلنار اسمحيلي ضيف هالكتابات لغادة..
( .. ما في حدا .. لا تندهـي .. ما في حدا .. )
الصقيع العالق بين أهدابنا يذوب .. لماذا لا نرفع القناع قليلاً لنمسح دموعنا ؟ طويلاً ضحكنا وتشاجرنا وعبثنـا ومـا زلنـا نضحك ..
لكن الصقيع العالق بين أهدابنـا بدا يذوب .. لمـاذا لا نرفع القنـاع قليلاً لنمسح دموعنـا ؟
أحدهم يُخاطب قنـاعي ويقول له _ هل تسمحـين بهذه الرقصة - ؟ أسمعه يجيب : شكراً لك .. لا أحب أن أرقص ...
وأغيب عن الجميع ... أخلفهم مع موسيقاهم وعطورهم ومشاغلهم ... لم أعد أسمع سوى صوت فيروز منتحباً في خواء شيطانـي . يحملنـي ليرمـي يـي إلى كهف رعب ووحشة وظلال ... اسمعه يئن :
مافي حدا .. لا تندهي ، ما في حدا ...
عتمة الطريق .. وطير طاير عا الهدا ..
بابهم مسكر .. والعشب غطى الدّرج ..
شو أولكم .. شو أولكم .. صاروا صدى .
ومافي حدا
وينبسط درب المصير أمـامـي .. مظلماً مغرقاً في الوحشة .. السماء تندب نجومها التي أنتحرت .. لا يؤنس وحشتها سوى طير ضال عبثاً يبحث عن غيمة يغازلها .. وأسير .. دراه تلوح من بعيد ... اتسلق درجات معشوشبة رطبة .. الطحالب تتمزق تحت قدمـي العاريتين ، وأحسها ديداناً هرمةً انسلت من قبر ما .. وأشعر أننـي أنزلق وأترنح وأهوي وأدمـي وأتسلق .. هذا الباب يجب أن أدقه وان كنت واثقة من أن أحداً لن يجيب .. وأظل أتمزق واصعد بنزوة الشباب إلى المجهول ، بحنيني المجنون إلى ما وراء الأبواب المغلقة .. لكنهم رحلوا والباب قد نسي كيف ينفرج .. وتميد الأشياء وأهوي .. يبتلعنـي صمت كهوف لم يلثم فمها المفغور ضياءً .. وأهوي عصوراً من عذاب .. لا أحد سوى وحشة سنونو أضاع ربيعه .. الدموع تسد منافذ القناع .. يجب أن لا أبكـي لئلا أفسد كحله
المتقن .. وتصرخ فيروز من جديد :
مع مين بدك ترجعي بعتمة طريق ..
لا شاعلة دارهم ولا عندك رفيق ..
يا ريت ضوينا القنديل العتيق ..
بالقنطرة ، يمكن حدا أهتدى
وما في حدا !
ويمتد الرعب من جديد .. أذكر أنه كان يمينها شاطئ أسود الرمال أبيض الزبد .. وكان للشاطئ شمس تتفتح في أحضانه السماوية كوردة بركان حمراء قبل أن تغرب عن الشاطئ الأسود .. وكان إلى يسار الطريق غابة وقمر عابث يلهو بأراجيح الغمام .. وكانت الألحان الوديعة والضحكات وشهقات الفرح الطفولية تتفجر من كل شيء ..
وعيناه بالقرب مني ، ليل منمنم يغمرنـي طيب دفئه ... لم يبقى سواي في الدرب المظلم البعيد وقد بللنـي مطر مالح كالدموع ..
" مع مين بدك ترجعـي بعتمة طريق " ..
وأحس يدي جافة كأشواك ما عرفت الندى .. يدي متعبة وضالة وضئيلة .. كيف أعود ؟ وإلى اين ؟ وأذكر حكايات جدتـي عن ليلى التي ضلت طريقها في الغابة .. وأذكر أسفي ورعبي من أجلها .. ويغمرنـي إحساس طفولي عتيق بأننـي أنا ليلى ، وان أطفال العالم جميعاً ما حزنوا إلا من أجلي .. كان لي قنديل صغير .. أين القنديل .. تنشج فيروز :
يا ريت ضوينا القنديل العتيق بالقنطرة ..
يمكن حدا .. كان أهتدى
وما في حدا ...
وأتعثر بقنديلي .. والصدأ قد أكل خديه .. الريح تلعق فتيله الجاف .. وأحميه بجسدي من المطر كـي أشعله . لهبته تترنح ببؤس غانية عجوز ثم تنطفئ .. لا زيت فيه .. لا حياة فيه .. لا شيء سوى وحدة ووحشة وخيبة ملتاعة ...
ويوقظنـي صوت حبيب إلى نفسي ، صوت أبي يقول : لمـاذا لا ترقصين ؟
وأجيبه وأنا أحس أننـي متعبة : لأنه ... لأنه ... مافي حدا ... !!
ويضحك الأصدقاء .. يبسم قنـاعي لهم كما ينفرج فم حصان ملجوم ...
لو إستطعت أن أزيح هذا القناع ، لو إستطعت لمسحت دمعة ..
"من كتاب .. حب "