جوان
مراقب و شيخ المراقبين
رؤية بقلم الكاتبة الكوردية ميديا كدّو
عزلةٌ موحشة ووحدةٌ مرعبة نعانيها، نهرب منها ماسكين بخصر القلم المتضائل، محاولين عبثاً تجسيد عذاباتنا في كلمات، علّنا نجد طريقاً لقهرها، فتخرج الكلمات قاصرة، لا تقوى على رسم مشاهد أيامنا بشذوذها الفجّ.
ومللٌ يُمطره الروتين ما شاء بجنونٍ علينا، فتتبلل به كلّ خطواتنا، ونبقى أبداً أسراه، تتلاعب بنا أقدارٌ غامضة ترفض التشخيص والتحديد في بضع جملٍ وحروف، لنملك سبيلاً لكبح جماح رعونتها في استعبادنا، لنمنعها من اغتيال أجمل أيام أعمارنا..
عبثٌ، فما عادت الكتابة اليوم تحمل في جوفها ذاك المارد القديم، الذي يفتح العيون المغشية، ولم تعد أصابع مثقفين مجهولين تلك الآلة الإلهية التي تعلن شروق الشمس بين ليلة وضحاها عبر كمٍّ هائل من الورق المنثور في الحواري وعلى الجدران كما في عصر الظلام والصمت، حيث كان المثقف النبي الوحيد، أو النبية في حالات نادرة وشائكة، الذي تقوم وريقاته بتعرية الواقع من بريستيجه وأدوات تبريجه، التي كانت تقمع الحبّ والكلمة، فكانت صفحات أنبياء الكتابة كأفاعٍ تُدسّ في أسرّة الطغاة، تزيل أقنعتهم الجميلة، ليعرف العامة كم إنهم مشوهين ومقبّحين بعريهم، ولتجرّد أقلامهم الشجاعة الواقع من شعاراته وتجرّه من ضبابيته، وكون عاداته ومعتقداته أوامر إلهية أو لعناتٍ سماوية إلى نور حقيقتها الجوفاء الفارغة، فيشتعل خزيه، لتهبه الثقافة من جديد فرصةٍ ليرمم اعوجاجه، وتترك الزمن ليكفّن أحداثه المشينة بمثابرته وعلى مهل، بعد أن تمخّض عن سيرة عذاباته الطويلة واقعٌ مزهو بمستواه الثقافي المرموق.
فيا ثقافة البشرية، ألم تعبري كلّ هذه الدروب، تتكاثرين بجنونٍ كالقطط في موسم التناسل، تكشفين العورات والهوات أيام كنتِ صبية؟
فلماذا باتت وسائلك اليوم خاملة في عصر التأويلات والانحرافات هذا؟ حتى بتِّ تعرجين مشلولةً في ممراتٍ وأزقاتٍ ضيقة، خارجةً عن مسارك، تاركةً خلف خطاك نتانةٌ وعفونةٌ كعفونة الخطيئة التي لا تنفك تنتشر كالوباء بين البشر وكالنار في الهشيم.
فأين هم القائمون على عرش الثقافة، المعنيون بهدهدتها وتقويم خطاها؟ فهي باتت في حالة سكرٍ يُرثى لها، وتفتقر لمن يمسك بيديها الملوثة بتحريف الوقائع، وتغيير التاريخ، وتجريم الشهداء، وتعظيم السفهاء، والتصفيق لبلدان ترتدي وجه الديمقراطية في انتظار فتح أبواب اتحادات تتلاعب بشوقها اللاهف، حتى تثاءبت هي وضميرها التجاري الجديد كهويةٍ تدخل به مجالس قادة العالم، فتعطي ضميرها إجازة لتمارس حقها المشروع في ضرب الشعوب بالحديد، وجرّ الثوار للسجون، لتعود حالها حال الكثير من البلدان، لنحيبها، تنشد الديمقراطية، وتقرّ بحقوق الإنسان كقناعٍ ترتديه حسب مقتضيات السوق الإقتصادية، بدل أن تجلدها الثقافة دفاعا عن تاريخها الحقاني ضد الأستبداية.. وغيرها من جرائم شوفينية اقتُرِفت تحت قبّة الثقافة باسم ضرورات أمنية بحق قوميات وشعوب وأمم وقادة دون أن تعطيهم الثقافة مكاناً يستحقونه في صفحاتها..
فأين المثقف ليمسك بيدي ثقافته الفاجرة، التي صارت مطيّة الجميع ومسرح الحروب الباردة، كطفلٍ يتيمٍ استغله الشارع، مأواه الوحيد، فأذنب وتلطخ واتسخ، ويحتاج بشدة لمن يعرّيه ويغسل عنه الكمّ الهائل من القاذورات المتراكمة على برائته وطفولته، ويداعبه ليعيده برفقٍ لطريق العقل، كي تعود ثقافتنا المرهقة لهويتها الأصلية وتشرق من جديد كشمسٍ حارقة شيطانية، تلهو بأغاظتنا كما الأطفال، وتلقننا درساً في العدالة، وتخبرنا بأننا لسنا بخير، ولا نزال نحتاج المزيد من الأقلام الصادقة مع دموعٍ وشموع نسطّر بها درب ثقافتنا الخالي من العورات والهوات، ونُخرج طموحاتنا النائمة من شرانقها الليلية المتحسرة، إلى ضوء الشمس وكلماتنا المنسية في أحشائنا من توابيت الهمس إلى صفحاتٍ تُرفع رأس زمننا شامخاً أبيا.
