الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد، فيا عباد الله:
تعلمون أن في موسم الصيف من كل عام تزداد فرص البطالة وتقل فرص العمل والإقبال إلى الشؤون والدراسات المختلفة. في فصل الصيف تغلق المدارس، وتغلق الجامعات، وتتكاثر فرص الإجازات، ومن ثم ينشط سماسرة الشرّ، ينشط سماسرة السوء في كل جانب من الجوانب المختلفة، وفي كل مرفق من مرافقنا الاجتماعية لاصطياد الشباب الذين ذاقوا لذة القرب من الله عز وجل، وتعرفوا على صراط الله سبحانه وتعالى، يقتنصونهم بالوسائل المختلفة، وقد انتهزوا فرصة هذا المناخ الصيفي الذي حدثتكم عنه.
فكيف الخلاص؟ وما هو الملاذ؟.
وإني لأَعلم أن كثيراً من الشبان الذين فرحوا بتوبتهم إلى الله عز وجل، واستبشروا بقبول الله سبحانه وتعالى لهم، يشكون من هذه الفرص الشيطانية، من هؤلاء السماسرة التي يقضون على السبل المتعرفة المختلفة التي نبهنا إليها بيان الله عز وجل، وحذرنا منها، والإنسان مهما استيقظت فطرته الإيمانية بين جوانحه، يظل بشراً، وتظل الغرائز الحيوانية يقظة مهتاجة بين جوانحه، فما بالك إذا هيجها سماسرة الشر؟ وما بالك إذا اتخذت المرافق والمقاصف والملاهي والمنتزهات المختلفة المتنوعة على الشطآن في ذر الجبال وهنا وهناك؟ ما بالك إذا ازّينت هذه المرافق والأماكن كلها، وجاء سماسرة الشر يتصيدون هؤلاء الشباب ليقتنصوهم من صراط الله عز وجل، ويبعدوهم عن حمى هذا الدين.
كيف السبيل. وما هو الخلاص؟
هنالك سبيلان اثنان أيها الإخوة:
أحدهما: مادي منظور تتحمله هذه الأمة كلها، وقادتها في المقدمة.
ثانيهما: وهو الأهم سبيل غير منظور.
أما السبيل الأول فهو أن تتمتع هذه الأمة، ممثلة أولاً في قادتها، أن تتمتع بالغيرة على مصير هؤلاء الشباب الذي عانقوا أيام المواسم الدراسية دراستهم، وعكفوا على علومهم، وبذلوا كل ما يملكون من السبل لتحقيق هوياتهم الفكرية والعلمية والثقافية، حتى إذا جاء هذا الموسم، أو حانت هذه الفرصة؛ هاج سماسرة الشر ليفسدوا ما صلح من شؤونهم، وليلزموهم بالخسران ويتضييع كل ما قد ربحوه في مواسهم الدراسية. أما ينبغي أن تتمتع الأمة ممثلة في قادتها بالغيرة على هؤلاء الشباب؟ أما ينبغي أن يتمتع هؤلاء القادة بالرحمة لأولادهم وشبابهم؟ تبذل الدولة الأموال والوسائل، وتضع الخطط المختلفة من أجل تحقيق الكيانات الثقافية والعلمية والفكرية والأخلاقية، حتى إذا انطوت مواسم الدراسة وجاء الصيف اللاهب بعد ذلك، جاء من يبدد كل ذلك الربح، ويقضي على كل ذلك النتاج العلمي والثقافي.
أنا لا أتصور - أيها الإخوة - أن يكون ثمة إنسانٌ عاقل يبني ويجهد نفسه في البناء؛ حتى إذا بذل جهداً لهذا العمل الذي يعكف عليه، وتنامى البناء وظهر؛ عاد بعد ذلك يترك جهده للرياح الهابَّة عن يمين وشمال، وأخذ ينظر إلى العواصف وهي تطير وتقوص هذا البناء الذي تعب هذا الإنسان في تقويمه وإشادته. كيف يتأتى هذا العمل المضني للبناء، لابدَّ أن يكون إلى جانبه عمل مضنٍ في الحراسة، من ينبي ينبغي أن يحرس، ومن يجمع المال في الصناديق ينبغي أن تكون له عين ساهرة لحماية هذه الصناديق. هل سمعتم بإنسان كد وتعب في سبيل جمع المال بكل الوسائل المختلفة، يعرق وينصب ويكد في سبيل ذلك، حتى إذا تكاثر المال في صندوقه نام عن حراسته، ونام عن رعايته، وترك اللصوص يعبثون بهذا المال، ويأخذونه ذات اليمين وذات الشمال؟ لا، لا يتأتى هذا.
أمتنا أمة ممثلة في قيادتها أولاً ينبغي أن تتوجه جهودها التي تبذلها في تكوين شبابها أخلاقياً ثقافياً علمياً دينياً ينبغي أن تبذل بعد ذلك جهوداً تتوج بها عملها هذا، ممثلة في الحراسة، في رعاية هذا التكوين ألا يتبدد، ألا يضيع سوىً.
نحن كلنا نقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى، ونعلم أننا مدعوون جميعاً إلى الالتزام بصراط الله سبحانه وتعالى والسير على النهج الذي شرعه، ويحذرنا جل جلاله من أن تفرقنا السيل المختلفة المتعرجة التي تبعدنا عن هذا النهج السوي القويم {وَأَنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 6/153] .
والسبل المتعرجة التي تشتت الأمة عن صراط الله عز وجل منها ما هو سبل فكرية اعتقادية مضللة، ومنها ما هو سبل سلوكية، سبل إغواء، سبل تدعو إليها الشياطين، شياطين الإنس والجن، تدعو الشباب إلى اللهو المحرم، تدعو الشباب إلى تضييع الوقت سوىً فيما يبدده، وفيما يشقيه، وفيما يضيع كل جهوده التي بذلها أيام الدراسة وأيام الإقبال على تكوين ذاته.
هذا كلام الله عز وجل فلماذا لا نتجاوب معه؟ ولماذا لا ننفذ هذه الوصايا الربانية التي تقبض رحمة بنا؟ من الذي ينهض بهذا؟ قادة هذه الأمة ما ينبغي أن يكونوا في شغل شاغل عن هذه المهمة التي أقامنا الله عليها، والتي يدعونا إليها المنطق، ما ينبغي أن نكون متناقضين من جانب نبني ومن جانب آخر نفض الطرف عمّن يهدم، وهكذا لا نزال نبني ولا يزال التهديم يلحق البناء إلى أن تقوم الساعة، جهود ضائعة لا رصيد لها ولا فائدة منها، هذا هو السبيل الأول.
أما السبيل الثاني، ولعله السبيل الناجع الأول، هو الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
كثيراً ما يعترضني شباب فرطوا بالهداية التي أكرمهم الله عز وجل بها، ولكن فرص الشر، سماسرة السوء يقفون لهم بالمرصاد، يتحينون الفرص لإغوائهم ولإضلالهم، ويجعلون من الغرائز ومن الأهواء رأس مالهم، يشكلوا لواحد منهم إلي هذه الحالة. كيف السبيل إلى أن يتخلص من هذا البلاء؟ كيف السبيل إلى أن ينجو من هذا المنزلق؟ وهو إن التفت يميناص وجد هذا المنزلق يتربص به، فإن التفت شمالاً وجد هذا المنزلق ذاته، وإن توجه إلى الأمام وجد من يتربص به من أجل أن يضله، فماذا يصنع؟ وكيف السبيل؟
وأنا عندما أُسال ويأتي من يستنجد بي للتخلص من هذا البلاء الماحق، أقول له: أنا مثلك، ألتجأتَ إلى عبد مثلك، كما أنك لا تملك من أمر نفسك شيئاً فأنا مثلك أنا الآخر لا أملك من أمر نفسي شيئاً لي، فكيف أملك فائدة لك أنت. ولكن أدلك على من تلجأ إليه، التجئ إلى من خلقك فسواك فأتأمل في هذا النهج الذي أقامك عليه، وابتلاك بما تتألم منه، التجئ إلى الإله الذي فطرك على الدين القويم، الذي فرحت بإقبالك على الله عز وجل بسائقه، التجئ إلى الله سبحانه وتعالى الذي غرس بين جوانحك ما تتألم منه، غرس بين جوانحك هذه الغرائز، هذه الشهوات، هذه الأهواء؛ هل التجأت إليه؟ هنا تكون المصيبة، لا تكون المشكلة، هي أكبر من مشكلة. جل المسلمين الملتزمين بدين الله عز وجل اليوم في مجتمعاتنا يلتزمون بسائق فكري، يلتزمون بموجب قناعات عقلانية، يلتزمون بموجب أصول حركية، خطط من هذا القبيل.
وكل هذا على الرغم من ضرورته لا يجدي، إنما الذي يجدي بعد ذلك أن تسري الروح في هذه الأنشطة كلها، وروح هذه الأنشطة كثرة الالتجاء إلى الله، كثرة التضرع على أعتاب الله سبحانه وتعالى، كثرة الدعاء صباح ومساء، لاسيما في الأوقات الخاصة التي يتجلى الله عز وجل فيها على عباده تجلي رحمة. أكثر المسلمين الملتزمين عن هذا العلاج تائهون، وعن هذا الدواء مبتعدون، ماذا يفيد بي أن أعتنق فكرياً بأن هذا هو السلوك القويم؟ ماذا يفيدني أن أقتنع فكرياً بأن هذه السبل المتعرجة مهلكة ومشقية إذا كانت الشهوات تعتلج بين جوانحي، وإذا كانت الغرائز تتغلب على فكري. لمن ستكون الغلبة؟ ستكون الغلبة للواعج، ستكون الغلبة للغرائز، ولن تكون الغلبة في هذا الحال للفكر العقلاني أبداً. ولكن متى ترقد الغرائر على الرغم من بقائها؟ متى ترقد الأهواء على الرغم من وجودها؟ عند الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، عند الالتصاق بأعتاب الله سبحانه وتعالى، عندما يجلس الشاب على باب مولاه خالقه، وقد بسط كف الرجاء إليه، وأخذ يناجيه بانكسار، يقول له: يا رب أنت الذي أمرتني فاستجبت لأمرك، وأنت الذي ابتلينين فها أنا جاءٍ إليك، أسألك أن تحررني مما ابتليتني به، وأنت القائل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 51/50] ها أنذا أقر إليك من شر نفسي، أقر إليك من هياج شهواتي وأهوائي، فياذا الجلال والإكرام! أمرتني بما أمرتني به، أسألك أن تعينني على تنفيذ الأمر الذي وجهته إلي.
أقول دائماً لهؤلاء الشباب الذين يسألونني عن العلاج: هل جربتم أن تلتجؤوا إلى الله، وتجعلوا من هذا الالتجاء دواء مستمراً مستمراً، ثم لم تأتكم النجدة؟ يستحيل، يستحيل ذلك. ربنا عز وجل يقول في محكم تبيانه: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} [غافر: 40/60] وأول معنى من معاني العبادة صدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى. أتعلم ما الحكمة في أن الله عز وجل أمرك بالاستقامة، ثم إنه ابتلاك بالشهوات التي تصدك عنها؟ الحكمة أنك بحاجة إلى الله، أن تعلم بأنك بحاجة إلى أن تلوذ برحمة الله، أجل، الحكمة أنك لا تملك من أمر نفسك شيئاً، إن لم يوفقك الله سبحانه وتعالى ويأخذ بيدك إلى الخير الذي أمرك به، هذه هي الحكمة {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 21/35].
مصيبة المسلمين - أيها الإخوة - أنهم في أحسن أحوالهم ملتزمون فكرياً، ملتزمون حركياً، أما صيغة العبودية المتمثلة في الانكسار، والمتمثلة بالالتصاق بأعتاب الله عز وجل دائماً، فهذه الصفة غائبة بأكثر الأحيان، ومن ثم نلاحظ الثنائية في كثير من المسلمين بالفكر والتصور والاعتقاد، مؤمنون مقتنعون بالحق وبالسلوك، كثيراً ما نجد أن أصحاب هذه القناعة منحرفون، لماذا؟ لأنهم لم يتوجوا الفكر الإيماني بالعبودية الضارعة لله سبحانه وتعالى.
من الذي يقول دعوت فلم يستجب لي؟ لا، لو دعوت الله بدافع من عبوديتك له، ولم تجعل من الدعاء ساعة تتركها بعد ذلك إلى غير رجعة، جعلت الدعاء وظيفة دائمة لك، ورداً دائماً دائماً دائماً لك، إذن لرأيت أن الله حيي كريم لابد أن يستجيب لك.
يروي الترمذي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم على شرط الشيخين من حديث سلمان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله حيي كريم يستحي من عباده إذا بسطوا أكفهم إليه أن يردها خائبة)). هذا كلام رسول الله عن مولاه و ربه سبحانه وتعالى، لكن ماذا إن قلت لكم إن في المسلمين من يستكبرون على بسط الأكف إلى الله؟ ألا تعلمون هذا؟ ألا تعلمون أن في المسلمين الملتزمين كثرة يسمعون الدعاء الواجف يتعالى من أفواه المتضرعين، ويرى الواحد منهم إخوانه قد بسطوا أكف الرجاء إلى الله، وهو ينظر إليهم كسائح غريب في بلد لا علم له بشأنها قط، كثيرون هؤلاء، والذين يدعون ويبسطون أكفهم إنما يبسطونها في مناسبة كهذه المناسبة، جمع، ثم في مسجد، في حفل، في نهاية مجلس ذكر، وأقبل الجميع يدعون الله عز وجل، وارتفعت الأكف بهذه المناسبة.
لكن من ذا الذي ذهب إلى داره، جعل من هذا الدعاء ورداً له في الأسحار؟ من ذا الذي يجعل من هذا الدعاء ورداً له في البكورة والآصال؟ من؟ من الذي يدعو ولا يمل من تكرار الدعاء؟
نحن بحاجة أيها الإخوة إلى ألا نحبس أنفسنا في سجن الإسلام الفكري والعقلاني، نعم، نحن نعاني من هذه المصيبة، وقد قلت لكم بالأمس إنني حضرت وأحضر مؤتمرات وندوات إسلامية كثيرة، لا أذكر، لا أذكر أن ندوة منها ضخت بدعاء ابتهل به المؤتمرون تضرعاً إلى الله عز وجل، ولو أن هذه الفكرة طرحت اقتراحاً، لاستخف بها الإسلاميون، لماذا؟ لأنهم إسلاميون بالفكر وبالتخطيط وبالعقلانية. أما خط العبودية بين الإنسان وبين ربه فمقطوع.
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي :عالم متخصص في العلوم الإسلامية ومن أهم المرجعيات الدينية على مستوى العالم الإسلامي
أما بعد، فيا عباد الله:
تعلمون أن في موسم الصيف من كل عام تزداد فرص البطالة وتقل فرص العمل والإقبال إلى الشؤون والدراسات المختلفة. في فصل الصيف تغلق المدارس، وتغلق الجامعات، وتتكاثر فرص الإجازات، ومن ثم ينشط سماسرة الشرّ، ينشط سماسرة السوء في كل جانب من الجوانب المختلفة، وفي كل مرفق من مرافقنا الاجتماعية لاصطياد الشباب الذين ذاقوا لذة القرب من الله عز وجل، وتعرفوا على صراط الله سبحانه وتعالى، يقتنصونهم بالوسائل المختلفة، وقد انتهزوا فرصة هذا المناخ الصيفي الذي حدثتكم عنه.
فكيف الخلاص؟ وما هو الملاذ؟.
وإني لأَعلم أن كثيراً من الشبان الذين فرحوا بتوبتهم إلى الله عز وجل، واستبشروا بقبول الله سبحانه وتعالى لهم، يشكون من هذه الفرص الشيطانية، من هؤلاء السماسرة التي يقضون على السبل المتعرفة المختلفة التي نبهنا إليها بيان الله عز وجل، وحذرنا منها، والإنسان مهما استيقظت فطرته الإيمانية بين جوانحه، يظل بشراً، وتظل الغرائز الحيوانية يقظة مهتاجة بين جوانحه، فما بالك إذا هيجها سماسرة الشر؟ وما بالك إذا اتخذت المرافق والمقاصف والملاهي والمنتزهات المختلفة المتنوعة على الشطآن في ذر الجبال وهنا وهناك؟ ما بالك إذا ازّينت هذه المرافق والأماكن كلها، وجاء سماسرة الشر يتصيدون هؤلاء الشباب ليقتنصوهم من صراط الله عز وجل، ويبعدوهم عن حمى هذا الدين.
كيف السبيل. وما هو الخلاص؟
هنالك سبيلان اثنان أيها الإخوة:
أحدهما: مادي منظور تتحمله هذه الأمة كلها، وقادتها في المقدمة.
ثانيهما: وهو الأهم سبيل غير منظور.
أما السبيل الأول فهو أن تتمتع هذه الأمة، ممثلة أولاً في قادتها، أن تتمتع بالغيرة على مصير هؤلاء الشباب الذي عانقوا أيام المواسم الدراسية دراستهم، وعكفوا على علومهم، وبذلوا كل ما يملكون من السبل لتحقيق هوياتهم الفكرية والعلمية والثقافية، حتى إذا جاء هذا الموسم، أو حانت هذه الفرصة؛ هاج سماسرة الشر ليفسدوا ما صلح من شؤونهم، وليلزموهم بالخسران ويتضييع كل ما قد ربحوه في مواسهم الدراسية. أما ينبغي أن تتمتع الأمة ممثلة في قادتها بالغيرة على هؤلاء الشباب؟ أما ينبغي أن يتمتع هؤلاء القادة بالرحمة لأولادهم وشبابهم؟ تبذل الدولة الأموال والوسائل، وتضع الخطط المختلفة من أجل تحقيق الكيانات الثقافية والعلمية والفكرية والأخلاقية، حتى إذا انطوت مواسم الدراسة وجاء الصيف اللاهب بعد ذلك، جاء من يبدد كل ذلك الربح، ويقضي على كل ذلك النتاج العلمي والثقافي.
أنا لا أتصور - أيها الإخوة - أن يكون ثمة إنسانٌ عاقل يبني ويجهد نفسه في البناء؛ حتى إذا بذل جهداً لهذا العمل الذي يعكف عليه، وتنامى البناء وظهر؛ عاد بعد ذلك يترك جهده للرياح الهابَّة عن يمين وشمال، وأخذ ينظر إلى العواصف وهي تطير وتقوص هذا البناء الذي تعب هذا الإنسان في تقويمه وإشادته. كيف يتأتى هذا العمل المضني للبناء، لابدَّ أن يكون إلى جانبه عمل مضنٍ في الحراسة، من ينبي ينبغي أن يحرس، ومن يجمع المال في الصناديق ينبغي أن تكون له عين ساهرة لحماية هذه الصناديق. هل سمعتم بإنسان كد وتعب في سبيل جمع المال بكل الوسائل المختلفة، يعرق وينصب ويكد في سبيل ذلك، حتى إذا تكاثر المال في صندوقه نام عن حراسته، ونام عن رعايته، وترك اللصوص يعبثون بهذا المال، ويأخذونه ذات اليمين وذات الشمال؟ لا، لا يتأتى هذا.
أمتنا أمة ممثلة في قيادتها أولاً ينبغي أن تتوجه جهودها التي تبذلها في تكوين شبابها أخلاقياً ثقافياً علمياً دينياً ينبغي أن تبذل بعد ذلك جهوداً تتوج بها عملها هذا، ممثلة في الحراسة، في رعاية هذا التكوين ألا يتبدد، ألا يضيع سوىً.
نحن كلنا نقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى، ونعلم أننا مدعوون جميعاً إلى الالتزام بصراط الله سبحانه وتعالى والسير على النهج الذي شرعه، ويحذرنا جل جلاله من أن تفرقنا السيل المختلفة المتعرجة التي تبعدنا عن هذا النهج السوي القويم {وَأَنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 6/153] .
والسبل المتعرجة التي تشتت الأمة عن صراط الله عز وجل منها ما هو سبل فكرية اعتقادية مضللة، ومنها ما هو سبل سلوكية، سبل إغواء، سبل تدعو إليها الشياطين، شياطين الإنس والجن، تدعو الشباب إلى اللهو المحرم، تدعو الشباب إلى تضييع الوقت سوىً فيما يبدده، وفيما يشقيه، وفيما يضيع كل جهوده التي بذلها أيام الدراسة وأيام الإقبال على تكوين ذاته.
هذا كلام الله عز وجل فلماذا لا نتجاوب معه؟ ولماذا لا ننفذ هذه الوصايا الربانية التي تقبض رحمة بنا؟ من الذي ينهض بهذا؟ قادة هذه الأمة ما ينبغي أن يكونوا في شغل شاغل عن هذه المهمة التي أقامنا الله عليها، والتي يدعونا إليها المنطق، ما ينبغي أن نكون متناقضين من جانب نبني ومن جانب آخر نفض الطرف عمّن يهدم، وهكذا لا نزال نبني ولا يزال التهديم يلحق البناء إلى أن تقوم الساعة، جهود ضائعة لا رصيد لها ولا فائدة منها، هذا هو السبيل الأول.
أما السبيل الثاني، ولعله السبيل الناجع الأول، هو الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
كثيراً ما يعترضني شباب فرطوا بالهداية التي أكرمهم الله عز وجل بها، ولكن فرص الشر، سماسرة السوء يقفون لهم بالمرصاد، يتحينون الفرص لإغوائهم ولإضلالهم، ويجعلون من الغرائز ومن الأهواء رأس مالهم، يشكلوا لواحد منهم إلي هذه الحالة. كيف السبيل إلى أن يتخلص من هذا البلاء؟ كيف السبيل إلى أن ينجو من هذا المنزلق؟ وهو إن التفت يميناص وجد هذا المنزلق يتربص به، فإن التفت شمالاً وجد هذا المنزلق ذاته، وإن توجه إلى الأمام وجد من يتربص به من أجل أن يضله، فماذا يصنع؟ وكيف السبيل؟
وأنا عندما أُسال ويأتي من يستنجد بي للتخلص من هذا البلاء الماحق، أقول له: أنا مثلك، ألتجأتَ إلى عبد مثلك، كما أنك لا تملك من أمر نفسك شيئاً فأنا مثلك أنا الآخر لا أملك من أمر نفسي شيئاً لي، فكيف أملك فائدة لك أنت. ولكن أدلك على من تلجأ إليه، التجئ إلى من خلقك فسواك فأتأمل في هذا النهج الذي أقامك عليه، وابتلاك بما تتألم منه، التجئ إلى الإله الذي فطرك على الدين القويم، الذي فرحت بإقبالك على الله عز وجل بسائقه، التجئ إلى الله سبحانه وتعالى الذي غرس بين جوانحك ما تتألم منه، غرس بين جوانحك هذه الغرائز، هذه الشهوات، هذه الأهواء؛ هل التجأت إليه؟ هنا تكون المصيبة، لا تكون المشكلة، هي أكبر من مشكلة. جل المسلمين الملتزمين بدين الله عز وجل اليوم في مجتمعاتنا يلتزمون بسائق فكري، يلتزمون بموجب قناعات عقلانية، يلتزمون بموجب أصول حركية، خطط من هذا القبيل.
وكل هذا على الرغم من ضرورته لا يجدي، إنما الذي يجدي بعد ذلك أن تسري الروح في هذه الأنشطة كلها، وروح هذه الأنشطة كثرة الالتجاء إلى الله، كثرة التضرع على أعتاب الله سبحانه وتعالى، كثرة الدعاء صباح ومساء، لاسيما في الأوقات الخاصة التي يتجلى الله عز وجل فيها على عباده تجلي رحمة. أكثر المسلمين الملتزمين عن هذا العلاج تائهون، وعن هذا الدواء مبتعدون، ماذا يفيد بي أن أعتنق فكرياً بأن هذا هو السلوك القويم؟ ماذا يفيدني أن أقتنع فكرياً بأن هذه السبل المتعرجة مهلكة ومشقية إذا كانت الشهوات تعتلج بين جوانحي، وإذا كانت الغرائز تتغلب على فكري. لمن ستكون الغلبة؟ ستكون الغلبة للواعج، ستكون الغلبة للغرائز، ولن تكون الغلبة في هذا الحال للفكر العقلاني أبداً. ولكن متى ترقد الغرائر على الرغم من بقائها؟ متى ترقد الأهواء على الرغم من وجودها؟ عند الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، عند الالتصاق بأعتاب الله سبحانه وتعالى، عندما يجلس الشاب على باب مولاه خالقه، وقد بسط كف الرجاء إليه، وأخذ يناجيه بانكسار، يقول له: يا رب أنت الذي أمرتني فاستجبت لأمرك، وأنت الذي ابتلينين فها أنا جاءٍ إليك، أسألك أن تحررني مما ابتليتني به، وأنت القائل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 51/50] ها أنذا أقر إليك من شر نفسي، أقر إليك من هياج شهواتي وأهوائي، فياذا الجلال والإكرام! أمرتني بما أمرتني به، أسألك أن تعينني على تنفيذ الأمر الذي وجهته إلي.
أقول دائماً لهؤلاء الشباب الذين يسألونني عن العلاج: هل جربتم أن تلتجؤوا إلى الله، وتجعلوا من هذا الالتجاء دواء مستمراً مستمراً، ثم لم تأتكم النجدة؟ يستحيل، يستحيل ذلك. ربنا عز وجل يقول في محكم تبيانه: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} [غافر: 40/60] وأول معنى من معاني العبادة صدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى. أتعلم ما الحكمة في أن الله عز وجل أمرك بالاستقامة، ثم إنه ابتلاك بالشهوات التي تصدك عنها؟ الحكمة أنك بحاجة إلى الله، أن تعلم بأنك بحاجة إلى أن تلوذ برحمة الله، أجل، الحكمة أنك لا تملك من أمر نفسك شيئاً، إن لم يوفقك الله سبحانه وتعالى ويأخذ بيدك إلى الخير الذي أمرك به، هذه هي الحكمة {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 21/35].
مصيبة المسلمين - أيها الإخوة - أنهم في أحسن أحوالهم ملتزمون فكرياً، ملتزمون حركياً، أما صيغة العبودية المتمثلة في الانكسار، والمتمثلة بالالتصاق بأعتاب الله عز وجل دائماً، فهذه الصفة غائبة بأكثر الأحيان، ومن ثم نلاحظ الثنائية في كثير من المسلمين بالفكر والتصور والاعتقاد، مؤمنون مقتنعون بالحق وبالسلوك، كثيراً ما نجد أن أصحاب هذه القناعة منحرفون، لماذا؟ لأنهم لم يتوجوا الفكر الإيماني بالعبودية الضارعة لله سبحانه وتعالى.
من الذي يقول دعوت فلم يستجب لي؟ لا، لو دعوت الله بدافع من عبوديتك له، ولم تجعل من الدعاء ساعة تتركها بعد ذلك إلى غير رجعة، جعلت الدعاء وظيفة دائمة لك، ورداً دائماً دائماً دائماً لك، إذن لرأيت أن الله حيي كريم لابد أن يستجيب لك.
يروي الترمذي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم على شرط الشيخين من حديث سلمان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله حيي كريم يستحي من عباده إذا بسطوا أكفهم إليه أن يردها خائبة)). هذا كلام رسول الله عن مولاه و ربه سبحانه وتعالى، لكن ماذا إن قلت لكم إن في المسلمين من يستكبرون على بسط الأكف إلى الله؟ ألا تعلمون هذا؟ ألا تعلمون أن في المسلمين الملتزمين كثرة يسمعون الدعاء الواجف يتعالى من أفواه المتضرعين، ويرى الواحد منهم إخوانه قد بسطوا أكف الرجاء إلى الله، وهو ينظر إليهم كسائح غريب في بلد لا علم له بشأنها قط، كثيرون هؤلاء، والذين يدعون ويبسطون أكفهم إنما يبسطونها في مناسبة كهذه المناسبة، جمع، ثم في مسجد، في حفل، في نهاية مجلس ذكر، وأقبل الجميع يدعون الله عز وجل، وارتفعت الأكف بهذه المناسبة.
لكن من ذا الذي ذهب إلى داره، جعل من هذا الدعاء ورداً له في الأسحار؟ من ذا الذي يجعل من هذا الدعاء ورداً له في البكورة والآصال؟ من؟ من الذي يدعو ولا يمل من تكرار الدعاء؟
نحن بحاجة أيها الإخوة إلى ألا نحبس أنفسنا في سجن الإسلام الفكري والعقلاني، نعم، نحن نعاني من هذه المصيبة، وقد قلت لكم بالأمس إنني حضرت وأحضر مؤتمرات وندوات إسلامية كثيرة، لا أذكر، لا أذكر أن ندوة منها ضخت بدعاء ابتهل به المؤتمرون تضرعاً إلى الله عز وجل، ولو أن هذه الفكرة طرحت اقتراحاً، لاستخف بها الإسلاميون، لماذا؟ لأنهم إسلاميون بالفكر وبالتخطيط وبالعقلانية. أما خط العبودية بين الإنسان وبين ربه فمقطوع.
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي :عالم متخصص في العلوم الإسلامية ومن أهم المرجعيات الدينية على مستوى العالم الإسلامي