Kurd Day
Kurd Day Team

سيلمس القاريء بأن هذا النص ليس من الصنف الأكاديمي بل مجرد إنطباعات وأفكار وتصورات لاتخلو بالطبع من جهد تنسيقي. ولأبدأ بمفهومي شخص الشاعر وهويته أو بالأحرى دوره: أهو ذو إمتياز أخلاقي أم إجتماعي ؟ بالنسبة للآخرين يكون المهم الشعر ذاته و ليس ما يتصوره الشاعر عن دوره. وفي الشعر العربي تكتسب هذه المقولة بعدها التأريخي المعروف. كذلك لايزال الشاعر في بحث عن التمايز بين الآخرين ومن دونهم في الوقت ذاته ، لكن بعيدا عن ذلك العلو من الحقب السابقة. مفهوم ٌ أن للعامل الفردي دوره البارز في الشعر المعاصر، و خاصة عند حصول مواجهة ، ومهما كانت بسيطة ، بين الشعر وبقية الفنون. ليس قصدي هنا إسهام هذا العامل في عملية الخلق بل كونه ميزة للموقف والخطاب الشعريين. وكما يقال فكل خلق هو تعبيرعن الشخصية غير أن على الكاتب الصحفي والباحث الأدبي ومؤلف القصة البوليسية أن يضعوا في الحساب بأن ما يفرغونه من شخصيتهم في عملهم لابد أن يكون ذا قيمة وفق نظام العمل الملزم ، في حين أن كل شيء في الشعر يصبح ، تلقائيا ، ذا قيمة أخرى. فحرية الكشف عن الذات غير محدودة من الناحية العملية. وعامة بمقدورنا أن نميّز نزعتين متعارضتين رغم أنهما تكافلتا في الكثير من المراحل إلا أن جوهريهما في حالة تناقض بيّن. الأولى تخص الشاعر الذي يتكلم من موقع علوي بالنسبة للآخرين وغالبما في عزلة. والثانية حين يتكلم أو بالأحرى يتخاطب وهو بين الآخرين ، أي أن يكون أحدهم. في الحالة الأولى تكون صورة الشاعر في قصيدته صورة شخص. وقد ُترسَم هذه الصورة بالخطوط العريضة أو من خلال إشارات لغوية غير مباشرة. وفي جميع الأحوال ليس هناك من شك في أن القصيدة هي ، بالمنظور النسبي ، خطاب ما لشخص فعلي وفردي ومتمايز عن خارجه. وتكون ، عادة ً، هذه الصورة قريبة من شخص الشاعر في معاناته وآرائه مما يكون ظاهرة طبيعية في عالم الإنسان الذي يعي الحاجز بين ( الأنا ) و( غير الأنا ). أكيد أن هناك حالات تجربة تلتصق بحياة الفرد من غير أن ُتطرح علنا. إلا أنها ظرف خاص. ففي الشعر نلقى الحالة التي تكون فيها الأنا الغنائية نموذجا خاصا للأنا الفردية والأخرى الإنسانية الشاملة. وفي شعرالطراز المناقض أي حين يتخاطب الشاعر بين الناس تكون الأنا الغنائية ليست فردا بل دورا. وتجد بنية الدورسندا لها في التجربة الشائعة. ومن يستقل الحافلة العمومية يقوم بدور راكب بلا شخصية من موقع السائق ومصلحة النقل وبقية الركاب. فممكن هنا أن يأخذ أيّ راكب آخر محله. وحين يقوم المرء بدور إنما يحقق مبدأ سلوكيا يخص وضعا عموميا من أوضاع العلاقات البشرية. ويكون الإنسان المبصر من هذه الزاوية مجموعة أدوار يؤديها في شتى مراحل حياته. والأنا في مثل هذا الشعر محرومة من أدوات الشخص أو فقيرتها. إنها ممثل لنوع معيّن من تجارب كبيرة النطاق ومشتركة أو أنها تجسيد لموقف معيّن من العالم أو مشكلة فكرية جرى تناولها بالصورة التجريدية أوغيرها.
وهي عادةُ أن يتخاطب الشاعر بضمير المتكلم ، إلا أنه ينبذ ما كان فرديا ، ويتقدم كدور، كأحدهم. وهنا يمكن أن يأخذ مكانه أيّ شخص آخر أيضا...
في هذا المدار نلحظ الشعر الذي يتكلم بغير صوته : الأنا هنا هي شخص محدد تحصر أطر صلبة حركته الداخلية ، إلا أنه يختلف عن الخالق الآخر الذي يبقى ، والحالة هذه ، مجرد ُمخرج للوضع الشعري أو مدوّن مونولوج ليس بمونولوجه الخاص في معظم الأحوال.
لا يتساوى ، في الأهمية ، هذان النوعان المستقطبان من ظهور الأنا في العمل الشعري. فقد نعتبر الأول حياديا وأثيريا، والثاني ذا صفات أخرى. وإذا تخلى الشاعرعن صوته الشخصي فالأكيد أن هناك أسبابا فلسفية أوعقائدية أو ظرفية ، وبينها كل أنواع القهرالذي لحق بالجانب الشخصي من الوجود ومسخ الإنسان الى مجموعة أدوار ثم دفعه في سكة نماذج سلوكية شائعة تجعل منه واحدا من حاملي الأرقام المجهولة...
و يتمثل الوجه الآخر للشعر اللاشخصي في تعطش الشاعر الى التضامن مع التجربة العامة والجماعية واليومية. وجزء مهم من شعر ( الصوت اللاشخصي ) صار اليوم الصيغة المعاصرة للشعر المُجَّند إجتماعيا. لكن يصعب تزامن الأناتين بأنقى الصيغ ، فليس هناك غير تعددية الأصوات وجمع النقائض وترويض النظري في العملي بشتى أحوال التناسب.
ومرة نظم إستفتاء أوربي عن دور الشاعر والشعر في عالم اليوم. إعترض عدد من الشعراء على صيغة السؤال إذ ليس هناك من دور بل قد تكون هناك مهمة أو موقع ما ، وفي كل الأحوال توقف الشعر عن القيام بأيّّ ( دور ) رئيسي في الوعي المعاصر. وإذا كان هناك من إشكال في هذا السياق فهو إشكال الخبير والمختص الذي خسر في السباق الحضاري مع ثقافة الصورة. من ناحية أخرى كفّ الشعر الحقيقي عن أن يكون أدبا. إنه لايقوم بأيّ دور في البعدين القومي والخصوصي : صار مجرد ميزة من ميزات التجمعات الطبيعية للحيوان الناطق الذي عرف ، داخليا ومن الآخرين أيضا ، بأنه يموت وحيدا ويحاول أن يتخطى الوحدة والموت في البوح الذي سيبقى بعده. فالمسألة قد صيغت بهذه الطريقة الغريبة التي تتيح لإنسان المستقبل القول إن هذا بوحه وإعترافه حسب. ومرة قيل إن طليعة القرن العشرين الشعرية أرادت أن تحل المشكلة ( مشكلة ما هو إنساني وما هو متدهور) من خلال الشعر المسمى بضد القيمة أوالآخر المسمى ضد الشعر. بعبارة أخرى تمّ طرح الخيار: إما رفض العالم وإما رفض الشعر. ومعلوم أن شعر الغرب قد إستساغ شعر الكارثة ، شعر السقوط والتمزق والحصر الأخلاقي والتمرد ، وأصبح ، عامة ً، شعرالإتهام. لكنه فقد المِقوَد ودوره المؤثر في المخيلة الجماعية. فالقيم المقررَّة في المنظومة الثقافية والروحية صارت موضع التشكيك في ( عصر الريبة ) على حد تعبير سوزان سونتاغ ، وذلك على يد الثقافة الجماعية والأنظمة الشمولية وما شابهها أو أوهام الحضارة التقنية. وجاء في قصيدة لتشيسواف ميووش ( تشيسلاف ميلوش ) عن الشعر الذي لم ينقذ الأمم والناس رغم ان الإعتراض وارد : متى قام الشعر بمثل هذه المهمة؟
في الواقع الأوربي ظهر شعر من نوع تراجيديا من دون تراجيدي أي بلا ( كاثارسيس ) ، وحل محل الآخر القائم على توفير أدلة النفي الأخلاقية. وقد يكون أمرا حسنا أن لا يلعب الشعر أحد تلك الأدوار الرئيسية وإلا لكان قد خضع ، لامحالة ، لأيدولوجيا قوية تقررالشكل الجماهيري لعالمنا ، أو لميثولوجيات جماعية أو أخرى تخص أوساطا معيّنة ، كانت قد بنت صورتها الشائعة أو علامتها الفارقة ، ولربما تتفاعل الكلمات بصورة أكثر هدوءا من الضجة القائمة. ولربما يكون الشعر نوعا من حملات إنقاذٍ بدأت لكنها لم تصل بعد الى الضائعين في عرض البحر...
واضح جدا أن إسهام الشعر ، ومع الفارق النسبي بالطبع ، في الحياة العامة بالغ الضآلة في شتى البقاع. وقد يكون هذا مجرد مظهر خادع. فالشعر يعمل اليوم بصورة مغايرة وأكثر خصوصية. ونجد ، مثلا ، أن النماذج ، وهي تخص الشعر من جانب خالقه ، والوظائف ، من جانب متلقيه ونقاده ، لا تتطابق بالضرورة. إنها تتغير في تيار الزمن أو تتراطم أو تتقاطع ، وهناك شعراء ُتسلط عليهم الأضواء السياسية قبل كل شيء. وقد تكون هناك ثلاث سبل لوجود وعمل الشعر في المكان الإجتماعي. وهي حين يعتبركل من الشاعر والمتلقي أو الناقد ، أنه يملك ، ومن دون العمل الشعري ، صورة للعالم واضحة ومتماسكة وأن القصيدة ليست إلا تصويرا تعبيريا لهذه المسألة. وهكذا فالسبق اللغوي والوجود للشعر قد ُترك جانبا ولأنه مكرور أزاء الأيدولوجيا أو أيّ نظرية للأدب. وقد يتفق الكثيرون مع الرأي القائل بأن الشعر لايملك اليوم إلا مهمة واحدة وهي تصويرية. فالسياسي والصحفي وخبير الأدب واللغة لا يرون في الشاعر شريكا ، فشعره فقد إستقلاليته الإجتماعية ، كما أن النموذج ، أي الوظيفة في صيغتها الإمتاعية بشكل خاص ، قد أصبحت متناهية الضعف عند المقارنة مع السبل الأخرى في الخلق و الشيوع الجماعيين . كذلك قد نتفق مع هذا الرأي : إن مصائر الشعر تعتمد على مصائرعالم الإنسان. ولماذا ؟ لأنه أحد سبل وجود هذا الكائن الناطق ، وأيّ صور وأيّ أصوات لن تأخذ ، وطالما نحن ننطق ، مكان الشعر رغم أنها قد ُتعمي بصره أو ُتعيي لسانه.
تحولات الحقيقة في الشعر
وجد الأغريق أن الشعر قادر ، كنبوءة وتجلٍ يستلهمان الحكمة الربانية ، على التعبير عن أرفع أنواع المعرفة أي الحكمة التي أسموها بربّان الروح. وبعدها نشأ سؤال تناولته عصور كثيرة : هل واجب الشعر قول الحقيقة التي عليها أن تكون مثل الحقيقة الفلسفية أي حقيقة بالمعنى المنطقي ؟ الأستيتيكا الكلاسية تنهي الشعرعن خلق الشيء الكاذب ، فواجبه قول الحقيقة. وكان الإستثناء متمثلا بأرسطو الذي أدرك أن لاعلى الكلام العائد الى الشعر والبلاغة أن يطلق الأحكام كما أنه ليس بالصادق ولا الكاذب. وبعد هذا الفيلسوف تحولت هذه الوجهة ونشأت حالة القبول بما ( يخترعه ) الشعراء ، و لربما يكون السبب في أنهم عاملوا هذا الأمر كسبيل مجازي للكلام عن الحقيقة أو أنهم إعتبروا خلق الوهم ، ومن ثم تحقيقه للمتعة ، هوالمهمة الصحيحة للشعر، و بذلك ُيعفى من واجب قول الحقيقة. وأخذ بالإعتبار الأول ( السفسطائيون ) الذين وجدوا أن البيت الشعري الجميل هو ما يحوي فكرة حكيمة. فالشكل الشعري هو مجرد وسيطة تعبير ، والشعر لا يختلف ، هنا ، عن المعرفة مضموناً بل بوسيطة الجهر التي هي مجازية ورمزية. والإعتبار الثاني تناوله ماركوس تشيتشرو M.Cicero حين قال : لما كانت هناك حاجة إلى الفن لو حوى الحقيقة وحدها. وعامة كان ما يميز أستيتيكا العصر الهيليني هو العامل الهيدوني عند فهم الشعر إلا أن هذا الشيء نادرا ما حصل. فتثمين الشعر تمّ في الغالب من زاوية علاقته بالمعرفة ، ومسألة حقيقيته كانت راهنة. فهم أدانوا الشعر عندما يبتعد عن الحقيقة وثمنوه عاليا إذا تقمص دور ناقل الحقيقة بحذافيرها أوالأخرى المقنعّة.
وفي أزمان الرينسانس إستمرت في نظرية الشعر فكرة أنه قادرعلى النطق بالحقيقة وكونه ملزما بذلك. إلا أنه جاءت تقوية واضحة لشروط أخرى أستيتيكية كان ينبغي أن تتوفر في الشعر. مثلا كتب فرانتشيسكو بوكاتشيو
F.Boccaccio أن الشعر يقول الحقيقة من خلف الستار وبأناقة. أما فرانتشيسكو بتراركا F.Petrarca فقد وجد أن واجب الشاعر أن ( يختلق ) أي أن ( يرتب و يزين حقيقة الأشياء الضئيلة والطبيعية أو أن يظهر أية واحدة أخرى بألوان فنية و يسترها بوهم ساحر، فالحقيقة أكثر عذوبة كلما صعب العثور عليها ). والرينيسانس المتأخر جمع الأمرين ، أي أن الحقيقة أو إحتمالها هما أرفع قيمة للشعر، وأن الإبتكار هو من صفات الشعر. كذلك خفّ الضغط على الشعراء كي يقولوا في فنهم الأحكام الحقيقية بل صار المطلب توفر الصور التقليدية في الشعر. كذلك فهذا النوع من الحقيقة لم يكن من نصيب الشعر وحده بل كل فنون المحاكاة. وأصبح أمرا أقل جوهرية في الشعر كفن ٍ أن تتوفر فيه القدرة على إطلاق الأحكام.
هكذا أصبحت حقيقة الصورالنوع َ الثاني من الحقيقة والمنافس الآخر بالمعنى المنطقي. وفي عصر التنوير الفرنسي طوّر جيامباتسيتا فيكو G. Vico هذه المقولة بل قلب الآية عندما ذكر أن حقيقة الشعر تظهر حيث لامكان للحقيقة بالمعنى المنطقي. وبرأيه تكون حكمة الشعر أول حكمة للأمم. أما الشعر ذاته فهو الهيئة الأولى للمعرفة في حين أن الفلسفة التأملية هي نتاج لاحق من الناحية التأريخية. ففي طور البربرية الأولية كان الشعر كنتاج للذاكرة والمخيلة والوعي التلقائي ( غير التأملي ) وسيلة التفكير الوحيدة المتاحة للإنسان. وتجسّد ذلك في الصورالشعرية والحكايات ، كما أن حقيقة الشاعر المشيَّدة بأداة المخيلة صارت الأكثر عمقا، والوهم ليس على خلاف معها ، فالشكل ليس زينة لها بل هو اللبنة الأساسية ، وكما يقول فيكو في مؤلفه المعروف ( العلم الجديد Sciena Nouva – The New Science ) تكون الحكايات الخيالية حقائق مثالية.
وبهذه الصورة برزت نظرية خاصة عن ( حقيقتين ) للشعر ، إحداهما هي الحقيقة بالمعنى المنطقي والتي إنتقلت في الأخير الى خلفية واقع الشعر رغم أن لا أحد ينكر حقها في الحضورالشعري عامة. والثانية تتمثل بمفهوم أرسطو عندما وجد أن ليس بمكنة الشعر قول الحقيقة بالمعنى المنطقي. وهذا المفهوم إعتنقته الأستيتيكا المعاصرة.
الشعر خارطة بلا حدود
من العلامات المميزة لأزماننا إنمحاء الحدود بين الأصناف الأدبية وتنامي أهمية المنطقة غير المباشرة التي تلتقي فيها تلك الأصناف. وفي معظم الأحوال تزول الحدود بين الرواية والمقالة الأدبية أو بينها والريبورتاج أو السيرة الذاتية. وفي مكتبة الغرب اليوم، بشكل خاص، نلقى التدوين الوثائقي الذي يعامل ك(أدب جميل belles - lettres). كما أن المقالات والأبحاث العلمية تسدّ بشكل متزايد النجاعة ، الحاجة الى الرواية التأريخية وحتى الدراما التي تقيّدها ضرورات التقديم المسرحي صارت تنجب أنواعا غير مباشرة كالقصة السينمائية التي هي ترتيب فني للقصة والسيناريو. وهناك المونودراما التي لاتختلف بشيء عن طراز معيّن من السرد الأدبي بهيئة مونولوغ يؤديه شخص معيّن. وفي الشعر ليس ثمة حدود أيضا.. بالطبع يخص الكلام هنا بعض أشكال التعبير. فعداه هناك وسائط شعرية أخرى نلقاها ، مثلا ، في أجزاء وصفية من الرواية أوغيرها. كما أن فكرة ( الشعر) قد توظف في سياقات أخرى كأن يكون هذا الخلق إسما لنوعية جمالية معينة. فنحن نقول : هذا فلم شاعري وذاك منظر طبيعي مليء بالشاعرية. بالطبع هذا حديث عن أمور أخرى. فشعر اليوم ، كما يؤلَف و ُيدرَك ، هو شكل للتعبير مستقل تماما عند المقارنة مع جميع الأشكال الأخرى ، بل يمكن المجازفة بالقول : يحقق الشعر هويته من خلال موقف المجابهة مع تلك الأشكال ، مع كل ما هو ليس شعرا. وللتبسيط قد يكون النثرهوالمقصود. لكن هذا لايعني أن الشعر يستخدم وسائطه الخاصة الغريبة على النثر. إنه يملك اليوم مثل هذه الوسائط بل أن الشعر هو خطاب موّجه بشكل مغاير لوجهة الآخرالنثري. فالنثر يصف الشيء الذي يتكلم عنه ويريد إقناعنا به في حين أن الشعر يؤدي ذات المهام لكن بدرجة أقل أو بالأحرى يؤديها كمهام جانبية. وعند مقارنة النثر بالشعر نجده أقل تنظيما في حين أن الشعرهو أعلى درجة ممكنة من تنظيم الكلام. النثر أكثر شفافية في ما يخص محتواه الدلالتي ، أما الخطاب الشعري فيبقي الإنتباه على ذاته ولأن ( الإعلام ) الوارد فيه هو نتاج عمليات لغوية.
إن التعارض الحاد بين الشعر والنثر قد أزال عن وعينا التقسيم الكلاسي ( الأنتيكي ) للأصناف الأدبية : الشعر، الملحمة ، الدراما. فالشعر دخل يومها كل نوع أدبي. وكانت الغنائية هي الشعر على الدوام، إلا أن الشكل الشعري إمتلكته الأعمال الملحمية الكبيرة. كما كان هناك الشعرالدرامي. واليوم يصعب الكلام ، عامة ، عن رواية مكتوبة شعرا أو قصيدة وصفية بحتة. أما الدراما الشعرية فأصبحت نتاجا هامشيا. وترك الشعر هذه الميادين كي يبقى في ميدانه الأكثر موائمة: الغنائية ، تلك ال( lyrikos ) اليونانية : الصفة لتلك الآلة الموسيقية lyra . وهذه الغنائية صارت تجسّد كل أبعاد الشعر على وجه التقريب. فالأنا بالغة الوضوح في هذا الموقع.
والأكثر من ذلك لاينقسم الشعر المعاصر الى أصناف مستقلة، إذ ليس هناك سوى اشكال ونماذج متكررة للمؤلف الشعري ، لكنها غير مرتبطة بالأنظمة القديمة للأصناف الشعرية. كما أنها ، في الوقت ذاته ، تبقى هلامية وغير منتظمة مما لايعيننا في فرزها كأصناف جديدة.
وطوال ما يسمى بالعصر الحديث إنصلت عن الشعر تدريجياً الأشكال الصنفية التي لم تنتم الى الغنائية. فاليوم ليس ثمة صوت مسموع للملحمة ولا الدراما الشعرية. و شعر المناسبات الذي نشأت منه في الماضي أصناف كثيرة لايمسك اليوم بمقود الشعر. وفي بداية العشرينات كانت ظاهرة إنمحاء الأصناف واقعا أوربيا صنعه الطلائعيون الذين لم تكن لهم أيّ صلات بأيّ تقاليد صنفية بل وجدناهم يقولون إن الشعر ذا القيمة هو الذي يخلق لنفسه القواعد...
هكذا أصبح الشعر، في منطقته الرئيسية ، غير صنفي. إلا أن مشكلة الأصناف لم تختف تماما. فهناك من يكتب اليوم ملحمة أو شعرا ظرفيا أو دراما شعرية أو نشيد إنشاد أو( معلقة ) لكنها باتت مقيّدة بالزمن الحاضر وتقاليده الجديدة. من ناحية أخرى نلقى نزعة تأكيد قوية على ( اللاصنفية) التي سميّت في القرن الفائت (ضدالشعر) وكمنهج مجابهةٍ ورفض للتقليد الشعري عامة. وهذا الضد نشأ نتيجة لإدراك الشعر كنشاط في نسيج لغوي أوإمكانية منح العنصر التأملي الكيان الذاتي ( الشعري ) المستقل عندما تكون الكلمة ذات شفافية مطلقة أزاء الأفكار. ومن الطبيعي أن المسافة كبيرة بين الإثنين : الشعر وهذا الضد.
العودة الخالدة الى الأنا
أكيد أن حقائق الشعر تعود الى حقائق الفكر. و الشاعر دخل منذ أزمان الكهوف ، لكن بأدوات سبقت اللغة، مصيدة الوعي : الوعي بالميلاد والموت ، أن يجد أو لا يجد كل شيء عدما...
ويتظاهر الشاعر بالرفض حين يتقبل هذا الكل عدما. وهناك الإثبات العلمي ، إضافة الى آراء باسكال هنا ، على عدمية الكل وكلية العدم على السواء. وهذا اللاشيء قد يمتلك شتى الهيئات والأوزان والمزايا والعيوب. وهو سرّ أكيد. وعامة تكون الأسرار ميتافيزيقية ، وهي لا ُتمسّ ! فالسرّ موجود. وأيّ شيء هو وجود الأشياء المادية ؟ بتفكير بسيط نفقه أنها تخلق كل ما هو جوهري. وهكذا ينبجس العدم في وجود عام. إنه أمر يحدث إذا كان الإنسان مجرد ُمشاهد ، و إذا كان الزمن بمثل هذا الطول الذي يسمح بتثبيت صحة أحكامه. وطالما تبدو الأمور بصورة مغايرة يكون الإنسان عدماً كبيراً أيضا. وإذا كان عدما ، وهنا المفارقة الباسكالية، فهذا يعني أنه كل شيء. وهذا الكل هو ذلك السرّ العظيم الذي يملك كل واحد تصورا ًمغايرا عنه. ولا أتذكر من قال إن حوالي هذا العدم الإنساني بهالته الفوسفورية ينتصب الماضي الذي ينتقي العظمة ويترك الصفر المطلق... وهذه حال الشعر المشدود بحسابات الفكر البارد. وشاعر هذه الحسابات ذو أعصاب هي الفولاذ عينه حين يتناول هذه الجرعة شبه المميتة من القدرية والوعي النرجسي بالعدم الكلي. إن هذا الشعر شديد الكثافة حاد المذاق شأن منطقية التفكير. إنه شعر ميتافيزيقيا العدم – الوجود ، وله مفعول الإذابة ، إذابة الثقة بالنفس ونشر الشك في أن الشعر الاخر قد مسّ الجوهر.
الملاحظ أن شعر الميتافيزيقا هذا يغنم مساحات أكبر فأكبر من الشعر المعاصر. وغالبما يرتبط في الذهن الشائع، برحلات السفن الفضائية. وبات واضحا أن أمام الفن الحديث لاتوجد اليوم ذات الأسئلة القديمة والمهذبة والتي لاتكلّ عن شرح مناهج الإنسية وأخلاقياتها إلخ. فأسئلة اليوم شرسة تركت العموميات والمبسَّطات جانباً. وكل هذا يدل على أن في البنية الأساسية للنتاج الفني نشأ تصدع بطيء قد يشير الى أن عصر الأستيتيكا قد إنتهى. فالمدارس والتيارات والأسماء الكبيرة لاتكون اليوم عامل تنظيم في الأدب بل تقطيعا لأوصاله. لقد حصل تغيّر غامض في التعامل مع الفن: بدل الموقف الأستيتيكي أو الشكلاني حلَّ الآخر: الوجودي أو الأنثروبولوجي أي أن الذات الشعرية ليست هي اليوم ما أسموه بالإنسان الأستيتيكي بل الآخر بكامل أجهزته البسيكو – فيزيقية مما يدحض بدوره مفهوم التناقض الداخلي في الشعر بين الأخلاقيات والجماليات أي الخيار الزائف الذي يأتي نسخة بائسة لتناقض الرومانسية القديم..
وطبيعي إذا عومل الفن كمهمة إنسانية يصبح هذا التقسيم زائفا على الفور. كذلك لابد من نشوء مركز رؤية للأدب يجتمع فيه قطباه أي الأخلاقيات والجماليات ويلتحمان في وحدة شعرية. إن الزمان والمكان مراتب ينظم البشر بمساعدتها ، واقعهم ، وتدل مراجعة الشعراء لهذه المراتب ، على أن كل جديد في الشعر يأتي نتيجة تبديد الأوهام والوصفات التي قد تصبح أكاذيبا.
إن هشاشة الحياة وضآلتها كظاهرة كونية راحت تتسرب الى وعي الشاعر المعاصر بكل عنفها. فتبديد الأوهام العالقة بالوجود الذاتي يقود الإنسان الى الإيمان بعدم فعلي. وهذا يكسر شوكة ذاتية ِ الوجود. وقد يملك هذا الأمر أهميته فيما يخص نضج الشاعر وتطوره الفني. وفي الحقيقة تكون معاناة الإنسان البيولوجية ، الفيزيولوجية بالدرجة الرئيسية ، والمنعكسة في قصيدة اليوم ، بعداً من أبعاد المواجهة القائمة بين الثقافة والطبيعة. فالشاعر ، غير الإنطباعي ، لايثق بالثقافة التي صارت تجريدا وفقدت الصلة بقاعدتها أي العلاقة المباشرة بالإنسان والطبيعة. وهكذا أصبحت نزعة البيولوجية ذلك ال( موتيف) لأعمق وقائع الفزع التي تختصرها ، بنجاعة كبيرة ، أحوال الواقع المرئي. فتجربة فيزيولوجيا الجسد تحررالمواقف الأخلاقية والعاجزة إزاء قوانين الحياة ، إذ أن إيقاع هذه والذي أدخل اليومي عليه الإضطراب ، وتراجيديا المصير وضآلة الكينونة صارت كلها تقرر ، لحد بالغ ، العلاقة الإنفعالية للشعراء بالواقع والمادة والفوضى.
كتب ألبيركامي: عالم القط ليس بعالم آكل النمل. ويمكن الإستمرار بالفكرة والقول : عالم الحيوان ليس بعالم الإنسان ، أو: عالم إنسان واحد ليس بعالم إنسان آخر.
وقد نضيف الى هذه الكلمات : ليس بالضرورة أن يكون عالم هذا الإنسان عالم َ ذاك ، عالم َالاخر. فلكل واحد الحق في الغيرية التي تصبح المهرب الشخصي ، كذلك فالغيرية هي إسم وليست من الأشياء ، وأمامنا خيار الأخذ أو النبذ غرزيا. والملاحظ أن بعضنا يلبس هذه الحقيقة بكل أناقة وذائقته لاتخلو ، هنا ، من التفنن أيضا. لكن بيننا الشعراء. وهم ينتمون الى الجنس ذاته ، جنس الإنسان العاقل homo sapiens ، إلا أن الفوارق قائمة ، وهي نسبية بالطبع . فذاتوية الشاعر تتنفس بأكثر من رئتين ومساماته تفرزعرقا آخر.