. المذهب الشافعي :
نسـبة إلـى أبـي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمـان بن شافع (204-150هـ)(31). يـرفع نسـبه إلى هـاشـم الـذي اختـلف فـيه إن كـان هـو هاشم بن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه و سلم ، أم ابن أخ له.
ولد في فلسطين بغزة على الأشهر أو عسقلان، وفي رواية أنه ولد في اليمن، وإن فسرت بأنها تعني إحدى المدينتين الفلسطينيتين، نظراً إلى أن أغلب سكانهما يمنيون. وفي سن مبكرة، هاجرت به أمه ــ وهي أزدية ــ إلى مكة، فأخذ في طلب الرماية والعلم، وكان فيهما ماهراً، إذ حفظ القرآن الكريم وأشعار العرب وكلامهم وآدابهم وأخبارهم. وكان سريع الحفظ قوي الذاكرة حاد الذكاء، مع جمال في الصوت مؤثر في السامعين عند ترتيل كتاب الله أو مطلق قراءة.
ثم نصح بتعاطي الفقه حتى تكتمل شخصيته العلمية، فبدأ بقراءة الموطأ وحفظه، ثم سعى متوسطاً بوالي مكة إلى والي المدينة للقاء مالك ليقرأ على يديه وليروي عنه.
وكان بما نال من علم وافر وما تحلى به من صفات مؤهلاً للإفتاء وهو دون العشرين، مع صرامة في الرأي، إذ روي أنه قال : >لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن ؛ ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي<(32).
ومع غزارة علمه وسعة معارفه، فقد كان يتحرج من المسائل الكلامية التي كان يرى أن الخطأ فيها قد يفضي إلى الكفر، في حين كان في القضايا السياسية يعبر عن رأيه، إذ كان يرى أن الإمامة أمر ديني يجب إقامته، وأنها ينبغي أن تكون في قريش ولو على حد السيف. وكان يعتبر الخلفاء الراشدين خمسة، يضيف إلى الأربعة عمر بن عبد العزيز.
أما فقهه، وقد جمع فيه بتوفيق ونقد بين مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، فقائم على منهج ينطلق فيه من أن العلم خمس طبقات : >الأولى الكتاب والسنة إذا ثبتت، الثانية الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، الثالثة أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قولاً ولا نعلم له مخالفاً منهم، الرابعة اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك، الخامسة القياس على بعض الطبقات ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى<(33).
ويتبين من هذا المنهاج أن مذهب الشافعي يعتمد بالدرجة الأولى على القرآن في استناد إلى ظاهره ما لم يضطر إلى التأويل، ثم على السنة باعتبارها تبين القرآن وتفسره. وكان بهذا التوجه يأخذ بخبر الآحاد ويقدمه على القياس، وإن كان يراهما معاً مخصصين لعموم القرآن.
وكان ابن حنبل يعتبر الشافعي أكثر اتباعاً للسنة من غيره، وكان يقول : >ما من أحد وضع الكتب منذ ظهرت أَتْبع للسنة من الشافعي<(34). وسأله مرة عن القياس فأجابـه : >عند الضرورة<(35). كما كان ابن راهويه يرى أنه أعلم وأعمل من غيره بالرأي، وهو القائل : >ما تكلم أحد بالرأي ــ وذكر الثوري والأوزاعي ومالكاً وأبا حنيفة ــ إلا والشافعي أكثر اتباعاً وأقل خطأ منه<(36).
وعلى خلاف غيره من الأئمة، فإنه لم يكن يقول بالاستحسان الذي كان يراه نوعاً من التشريع، في حين كان يعطي أهمية للعرف وللذرائع. كما أنه ــ على عكس مالك ــ لم يكن يرى حجية للمصالح المرسلة. أما الاستصحاب فقد توسع في الأخذ بقسمه المتعلق بالوصف دون غيره.
بهذا وغيره مما تميز به الشافعي من علم، وتفرد به من صفات، بقي أثره متجلياً في جوانب متعددة، يمكن إجمالها في مجالين :
الأول : التلاميذ الذين رووا وحدثوا عنه، وهم كثر، وقد ذكر منهم البغدادي(37) سليمان بن داود الهاشمي، وأحمد بن حنبل،وغيرهما، وذكر الحموي أنهم >زيادة على مائة، هذا مع قصور سنه عن سن أمثاله من الأئمة، وإنما تكثر الرواة عن العالم إذا جاوز سنه الستين أو السبعين، والشافعي لم يبلغ في السن أكثر من أربع وخمسين<(38).
الثاني : مناظراته ومؤلفاته. أما مناظراته فقد تضمنتها كتبه، وأما مؤلفاته فقد احتوت كتباً كثيرة استعرض الحموي فهرستها، منها ما دونه ومنها ما أملاه في الحجاز والعراق ومصر. ولعل ما وصل منها لا يشكل إلا ما حرره أو أعاد تحريره في مصر، ويتمثل في الآتي :
1. الرسالة، وقد كتبه ــ إملاءً فيما يظهر على أحد تلاميذه لعله الربيع وفق ما ذهب إلى ذلك محقق الرسالة.
ويعتبر هذا الكتاب أول ما وضع في أصول الفقه لضبط القواعد والحدود التي تسير عليها أحكام الشرع وتقوم عليها معرفة دلائل هذه الأحكام.
2. الأم، ويحتوي عشرة كتب.
3. اختلاف الحديث.
4. سنن (الإمام الشافعي) في الحديث.
5. مسند (الإمام محمد بن إدريس).
6. ديوان الشافعي، ويضم أبياتاً ومقطوعات وقصائد تنم عن طاقة إبداعية وقدرة تعبيرية مع فصاحة وجزالة وميل إلى الحكمة.
بهذا التراث الغني في مجال الفقه والحديث واللغة والأدب، نال الشافعي عاطر الثناء عليه. وقد خصه ابن حنبل بالكثير من عبارات التقدير والإكبار. وقال عنه >كان الفقه قفلاً على أهله حتى فتحه الله للشافعي... ما عرفنا العموم من الخصوص وناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم من منسوخه، حتى جالسنا الشافعي<(39). وقال معتبراً إياه مجدد المائة الثانية : >إن الله تعالى يقيض للناس في كل رأس مائـة سنة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الكذب، فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين الشافعي رضي الله عنهما<.
نسـبة إلـى أبـي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمـان بن شافع (204-150هـ)(31). يـرفع نسـبه إلى هـاشـم الـذي اختـلف فـيه إن كـان هـو هاشم بن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه و سلم ، أم ابن أخ له.
ولد في فلسطين بغزة على الأشهر أو عسقلان، وفي رواية أنه ولد في اليمن، وإن فسرت بأنها تعني إحدى المدينتين الفلسطينيتين، نظراً إلى أن أغلب سكانهما يمنيون. وفي سن مبكرة، هاجرت به أمه ــ وهي أزدية ــ إلى مكة، فأخذ في طلب الرماية والعلم، وكان فيهما ماهراً، إذ حفظ القرآن الكريم وأشعار العرب وكلامهم وآدابهم وأخبارهم. وكان سريع الحفظ قوي الذاكرة حاد الذكاء، مع جمال في الصوت مؤثر في السامعين عند ترتيل كتاب الله أو مطلق قراءة.
ثم نصح بتعاطي الفقه حتى تكتمل شخصيته العلمية، فبدأ بقراءة الموطأ وحفظه، ثم سعى متوسطاً بوالي مكة إلى والي المدينة للقاء مالك ليقرأ على يديه وليروي عنه.
وكان بما نال من علم وافر وما تحلى به من صفات مؤهلاً للإفتاء وهو دون العشرين، مع صرامة في الرأي، إذ روي أنه قال : >لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن ؛ ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي<(32).
ومع غزارة علمه وسعة معارفه، فقد كان يتحرج من المسائل الكلامية التي كان يرى أن الخطأ فيها قد يفضي إلى الكفر، في حين كان في القضايا السياسية يعبر عن رأيه، إذ كان يرى أن الإمامة أمر ديني يجب إقامته، وأنها ينبغي أن تكون في قريش ولو على حد السيف. وكان يعتبر الخلفاء الراشدين خمسة، يضيف إلى الأربعة عمر بن عبد العزيز.
أما فقهه، وقد جمع فيه بتوفيق ونقد بين مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، فقائم على منهج ينطلق فيه من أن العلم خمس طبقات : >الأولى الكتاب والسنة إذا ثبتت، الثانية الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، الثالثة أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قولاً ولا نعلم له مخالفاً منهم، الرابعة اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك، الخامسة القياس على بعض الطبقات ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى<(33).
ويتبين من هذا المنهاج أن مذهب الشافعي يعتمد بالدرجة الأولى على القرآن في استناد إلى ظاهره ما لم يضطر إلى التأويل، ثم على السنة باعتبارها تبين القرآن وتفسره. وكان بهذا التوجه يأخذ بخبر الآحاد ويقدمه على القياس، وإن كان يراهما معاً مخصصين لعموم القرآن.
وكان ابن حنبل يعتبر الشافعي أكثر اتباعاً للسنة من غيره، وكان يقول : >ما من أحد وضع الكتب منذ ظهرت أَتْبع للسنة من الشافعي<(34). وسأله مرة عن القياس فأجابـه : >عند الضرورة<(35). كما كان ابن راهويه يرى أنه أعلم وأعمل من غيره بالرأي، وهو القائل : >ما تكلم أحد بالرأي ــ وذكر الثوري والأوزاعي ومالكاً وأبا حنيفة ــ إلا والشافعي أكثر اتباعاً وأقل خطأ منه<(36).
وعلى خلاف غيره من الأئمة، فإنه لم يكن يقول بالاستحسان الذي كان يراه نوعاً من التشريع، في حين كان يعطي أهمية للعرف وللذرائع. كما أنه ــ على عكس مالك ــ لم يكن يرى حجية للمصالح المرسلة. أما الاستصحاب فقد توسع في الأخذ بقسمه المتعلق بالوصف دون غيره.
بهذا وغيره مما تميز به الشافعي من علم، وتفرد به من صفات، بقي أثره متجلياً في جوانب متعددة، يمكن إجمالها في مجالين :
الأول : التلاميذ الذين رووا وحدثوا عنه، وهم كثر، وقد ذكر منهم البغدادي(37) سليمان بن داود الهاشمي، وأحمد بن حنبل،وغيرهما، وذكر الحموي أنهم >زيادة على مائة، هذا مع قصور سنه عن سن أمثاله من الأئمة، وإنما تكثر الرواة عن العالم إذا جاوز سنه الستين أو السبعين، والشافعي لم يبلغ في السن أكثر من أربع وخمسين<(38).
الثاني : مناظراته ومؤلفاته. أما مناظراته فقد تضمنتها كتبه، وأما مؤلفاته فقد احتوت كتباً كثيرة استعرض الحموي فهرستها، منها ما دونه ومنها ما أملاه في الحجاز والعراق ومصر. ولعل ما وصل منها لا يشكل إلا ما حرره أو أعاد تحريره في مصر، ويتمثل في الآتي :
1. الرسالة، وقد كتبه ــ إملاءً فيما يظهر على أحد تلاميذه لعله الربيع وفق ما ذهب إلى ذلك محقق الرسالة.
ويعتبر هذا الكتاب أول ما وضع في أصول الفقه لضبط القواعد والحدود التي تسير عليها أحكام الشرع وتقوم عليها معرفة دلائل هذه الأحكام.
2. الأم، ويحتوي عشرة كتب.
3. اختلاف الحديث.
4. سنن (الإمام الشافعي) في الحديث.
5. مسند (الإمام محمد بن إدريس).
6. ديوان الشافعي، ويضم أبياتاً ومقطوعات وقصائد تنم عن طاقة إبداعية وقدرة تعبيرية مع فصاحة وجزالة وميل إلى الحكمة.
بهذا التراث الغني في مجال الفقه والحديث واللغة والأدب، نال الشافعي عاطر الثناء عليه. وقد خصه ابن حنبل بالكثير من عبارات التقدير والإكبار. وقال عنه >كان الفقه قفلاً على أهله حتى فتحه الله للشافعي... ما عرفنا العموم من الخصوص وناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم من منسوخه، حتى جالسنا الشافعي<(39). وقال معتبراً إياه مجدد المائة الثانية : >إن الله تعالى يقيض للناس في كل رأس مائـة سنة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الكذب، فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين الشافعي رضي الله عنهما<.