بالأمس القريب سمعتك تهمسين في أذني ...........؟! .
ومثل وشوشة العصافير تبدين رغبة ملحة , في أن أتحدث لك عن نفسي .........؟! .
ورغم غرابة السؤال ألا إنه أثار انتباهي كثيرا , ثم تساءلت .. ترى ما الذي تعرفينه عني .. وما الذي تجهلينه .. ثم ما الذي تودين أن تعرفيه .. وهل بقي شيء لم تعرفينه بعد ..؟
أسئلة كثيرة تجاذبتني .. منها ما يتلني يريد العودة بي إلى البدايات , ومنها ما يدفعني نحو المستقبل وبما يحمله من الأسرار الدفينة , ومنها ما يريد يبقيني في حالة متأرجحة بين الماضي والمستقبل ويغريني بأن أعيش الحاضر بكل ما فيه ؛ فقد فات الذي فات ومؤمل الغد يجهل ما ينتظره .
وبين هذه الأسئلة المتنافرة وقفت مبهوتا للحظات .. ولكنني أدركت يقينا بأن لا مفر لي من الإجابة , لأنها عنوان الحقيقة ...! .
والسؤال الذي أقلقني كثيرا ترى من أين أبدأ ..؟ ففي حياتي بدايات كثيرة , لكنها لم تنتهي بعد ولن تنتهي أبدا , لأنني أريد إحدى نهايتين لا بديل لي عنهما , ولا حيلة لي فيهما والله يخير لي .
وقد أثرت أن لا أخوض في النهايتين لأنني تذكرت قول هيراقليطس : " إن الكلام في غير وقته يفسد العمر كله " .
ورغم جهلي بالذي تريدينه مني , وبأية واحدة من البدايات أبدأ كي أريحك وأستريح ...! .
لكن المسألة لم تكن بالسهولة التي تتصورين , لأن لي مع كل بداية حديث ذو شجون ..! وأمام إحساسي برغبتك وإصرارك على معرفة ما تجهلينه عني لم يكن لي إلا أن أطلقت العنان لحواسي وحدسي معا علها ترشدني إلى ما يدور في نفسك وما تقر به عينك , أو ربما تهيج أشجانك .. أو توقظ فيك الشكوك .. أو تريحك منها .. أو تدفعك خطوة إلى الأمام .. أو ترجع بك خطوات إلى الوراء .. أو تنقلك إلى عالم من الهدوء والسكينة , ومن يدري ربما تحيلك إعصارا ..!؟ .
ومهما تكن النتيجة فقد اتخذت قراري وآليت أن أمتثل لرغباتك أو أوامرك أو وحيك , سمها ما شئت فقد اعتدت أن لا أعصي لك أمرا ..! .
واعذريني على ذكر كلمة اعتدت إذ لا تليق بك , فالعادة تختلف عن العبادة ومصيبة المصائب كلها عندما تصبح العبادة عادة ؛ بينما من حقك علي ومن واجبي تجاهك أن أطيعك في كل ما تأمرينني به , ثم أجمع روحي ومشاعري وكل حواسي وأنحرها كالذبيحة قربانا عند قدميك .. لأنك كنت وما زلت وسوف تبقين إلى ما شاء الله مصدر إلهامي , وأنت أهل لذلك .
تقول مادلين سكودري : " إن ما أريد أن تتعلمه المرأة قبل كل شيء , هو أن لا تتكلم كثيرا عما تعرفه جيدا , وألا تتكلم إطلاقا عما لا تعرفه , أريد ألا تكون مفرطة في العلم أو مفرطة في الجهل , وأن تعنى بعقلها بقدر عنايتها بشخصها " .
أرجو أن لا ينفد صبرك , وأنا أدور في حلقة مفرغة علني أمسك برأس الخيط الذي أبدأ منه . ولكي لا أطيل عليك وأرحمك من دوامة قد تتوه بك كثيرا فتفقدك صوابك .
أريد أن أبدأ معك من السنوات العشر الأخيرة – أرجو أن لا تستغربي ولا تتساءلي – لأنها احتوت عصارة عمري كله , ماضيه وحاضره وربما مستقبله .
يقول كليمنصو : " كل ما أعرفه تعلمته بعد الثلاثين من عمري " . فكلنا يعيش مرحلة من الطيش والنزوات قد تطول أو تقصر , ألا إنني عشت هذه المرحلة بأكثر مما ينبغي لأسباب كثيرة تضافرت على ذلك ربما تعرفين منها القليل وتجهلين عنها الكثير . ولا بد أن يأتي اليوم الذي تعرفين فيه كل شيء بأدق تفاصيله , لا أدع صغيرة ولا كبيرة إلا أحصيتها لك , ففي ذلك راحة كبيرة لنفسي وفائدة عظيمة لك .
ومن سواك أشكو إليه همي وحزني , وما آلت إليه حالي وأمنحك تجربتي لتكون لك ذخرا وبالله توفيقك .
يقول يسوع عليه السلام : " ازرعوا لأنفسكم بالبر , احصدوا بحسب الصلاح , احرثوا لأنفسكم حرثا فإنه وقت لطلب الرب , حتى يأتي ويعلمكم البر , قد حرثتم النفاق حصدتم الإثم , أكلتم ثمر الكذب " .
لقد آثرت السنوات العشر الأخيرة , على السنوات التي بدأت تقترب من الثمان وهي مدة معرفتي بك – ولا أدري إن كنت أعطيت الكلمة حقها أم أنني ما زلت أجهل عنك الكثير – لأنها كانت بالنسبة لي بداية التكوين , وبداية إدراكي للعالم الخارجي الذي يحيط بي وكذلك كانت في الوقت ذاته بداية تحول وبناء لعالمي الداخلي , أو كما يسميه البعض – تجنيا وإسفافا – بداية الهدم لعالمي الداخلي , لأن الأعمار في زمن التخريب هدم ..! .
هكذا شئت أو هكذا شاءت لي الأقدار بأن أخرج مهزوما من معركة غير متكافئة , فكانت الغلبة علي لا لي , فإن لكل حصان كبوة .. كما إن لكل عالم هفوة .
وكنت دائما أحاول أن أقنع نفسي بأن الجولة الأخيرة لم تنتهي بعد . ولكن أسقط الأمر في يدي , وعلى استحياء مني ألقيت نظرة عاثرة إلى الوراء , فإذا بالسراب الذي كنت ألهث وراءه أحسبه ماءا قراحا قد استحال لهبا في أتون صحراء مترامية الأطراف ., وفجأة وجدت نفسي بلا زاد ولا ماء ولا راحلة ..؟! .
وتأملت سيفي الذي لم أزل أمسك بمقبضه لأعطي نفسي دفعا آخر باتجاه حسم المعركة لصالحي , لكنني لم أحتمل هول الصدمة عندما أدركت أن سيفي من خشب .
ثم تذكرت قول ألبرتس : " إن التجربة وحدها هي التي توصل إلى الحقائق المؤكدة " . ثم بدأت أنفصل عن جسدي ببطء , وبدأت الهوة تتسع بيننا , حاولت أن أبكي .. أن أحيل تلك الصحراء إلى بحر من الدموع , وأفجر الأرض ينابيعا وأنهارا . اعتصرت عيناي متمنيا أن لا تخذلني فانحدرت على خدي دمعة واحدة خجولة ؛ لقد كانت البقية الباقية ..! .
وأدركت حينها كم هي دموع الرجال عزيزة , حاولت أن ألحق بجسدي وأتلمسه هل حقا أنني رجل ..؟ إذن لماذا كانت دموعي رخيصة حيث أنفقتها دون أن أجني منها ثمارا ولا غلالا , واليوم استجديها في زمن عز فيه مطلبها .
لقد كان ذلك خطأي أو ثمنا لخطيئتي لأنه فرض علي أن أعيش في زمن غير زمني , وبين أناس هم ليسوا من جلدتي , وعلى قدر المصيبة يكون المصاب .
ومثل شريط سينمائي تخيلت مصعب بن الزبير عندما قام من الليل فلبس لباس الحرب وتوشح بسيفه وأدركت سكينة بنت الحسين وقد كانت زوجته أنه لا محالة مقتول . فصاحت وا مصعباه ...! . فالتفت إليها بهدوء وقال لها : أو كل هذا الحب لي ؟ قالت : أي والله وما أخفيه أعظم . قال : لو كنت أعلم ذلك لكان بيني وبينك أمر ..!؟ ثم خرج ولم يعد .
إنه لثمن باهظ ومصيبة جليلة عندما يستوي الدينار بالدرهم , وعندما يباع الرجال في أسواق النخاسة سواسية دون تمييز بين عبد وسيد .
عذرا إن كنت قد شطحت قليلا , وأنا الذي اعتدت أن أشطح كثيرا , ولا حيلة لي في ذلك كما لا حيلة لك إلا أن تتحملي شطحاتي رغم أنها لا تسمن ولا تغني من جوع .
يقول سقراط : " لا أعرف سوى شيء واحد وهو أنني لا أعرف شيئا " . ولا أدري لماذا كتب علي أن أدفع ضريبة العظماء , رغم أنني لست عظيما – لا تستغربي – ربما تكون بعض حماقاتي .
لقد كنت طفلا مدللا.. وأضلني الذين هم من حولي قبل أن تضلني السنون , فتمرغ وجهها بالمياه الآسنة قبل أن يتمرغ وجهي .. وخرجت إلى الدنيا معصوب العينين , تتنازعني رغبات شتى دون ضابط ولا ناظم ولا مرشد ولا معلم .. مثل ريشة ألقيت في فلاة تلعب بها الريح كيفما اتفق , وبدأت السنوات تتقاذفني ككرة تتقاذفها الأرجل لا يقر لها قرار .
ولم أكن أدري حينها ماذا تعني السنوات ؛ بل الحياة برمتها لم تكن بالنسبة لي سوى لعبة أطفال , سرعان ما يرهقهم التعب فيأوي كل واحد منهم إلى فراشه ليجد نفسه عصفورا في غابة بكر يطير ولكن بلا جناحين ...؟! .
ومثل يقظة الحالم بدأت أعد السنوات الخوالي على أصابعي .. واحدة .. اثنتان .. ثلاثة .. ثم أعيد الكرة من جديد لعلني أخطأت , أحاول أن أتأكد من أصابع يدي .. إنها عشرة .. فقط عشرة لا تزيد ولا تنقص وهكذا إلى ما لا نهاية ..؟! .
ولكنني كنت أخرج دائما بنتيجة واحدة . أيام تتسارع وسنوات تحترق وقطار العمر يمضي بي من محطة إلى أخرى وأنا أغوص في سبات عميق .
كيف حصل كل هذا .. ومن المسؤول .. وهل كان في غفلة مني .. أم كان عن عمد ونية ..؟
تساؤلات لم تعد تجدي نفعا , يجب أن أبحث لنفسي عن مخرج فالقافلة تسير والركب حثيث . يقول لوك : " إن عقولنا خلقت خالية من كل فكرة كلوحة جرداء ولكننا نكون أفكارنا ومعارفنا من التجربة في الحياة , وهذه التجربة تكون خارجية بالإحساس , ثم تكون باطنية بالتفكير والتأمل " .
من هنا يجب أن أبدأ وأن استرجع في ذاكرتي ما جنيته من تلك السنوات التي مرقت من عمري كما يمرق السهم من الرمية . علني أفيد منها في السنوات المقبلة , أو ربما تكون مفتاحا للغز حيرني وأعجزني عن فتح ولو باب واحد عسى أن أجد فيه مخرجا من تلك الدوامة التي ابتلعت الكثير من السنوات , وكان عزائي في قول لجون لوقه : " إن الإنسان يجب عليه أن يفقد نصف وقته لكي يستطيع أن يفيد من النصف الآخر " .
على هذا الأساس تمتمت لنفسي إن الإنسان الذي اتسعت ثقافته وخبر الحياة وذاق حلوها ومرها لا يستطيع أن يندفع في تيار الحب معصوب العينين جاهلا شخصية المرأة التي يحب . من هنا كانت لحظة التحول في حياتي , ولكنني كنت حينها قد وصلت إلى لحظة اليأس ..! .
ومثلما بزوغ الشمس عند فجر جديد حيث تتلاشى تحت وطأتها عتمة الليل لتتهادى إلى العالم السفلي .. ومثلما تكويرة القمر عندما يتحرر من غيمة سوداء كثيفة فيحيل الليل أنسا بعد وحشة .. ومثلما النسمة عندما تنطلق من معقلها فتداعب خصلات شعرك الناعمة , وتلامس شفتيك برفق مخافة أن تخدشهما .. ومثلما فرحت الوردة عندما تذوب ابتسامتها بين قطرات الندى المتساقطة على شفتيها فتملأ الفضاء من حولها عبقا وأريجا .
هكذا وفي لحظة اليأس انبعث الأمل من جديد ..! لقد كنت أنت ..! .
أين كنت ..؟ وكيف جئت ..؟ وأي طريق سلكت ..؟ وماذا تحملين معك ..؟ أسئلة كثيرة أدركت من خلالها أنني بدأت , ولكنها بداية جديدة .. جديدة بكل ما فيها , بشكلها وجوهرها .. بكمها وكيفها .. بحزنها وفرحها .. بآلامها وآمالها . وحسبت أنني خلفت ورائي الماضي بكل أحزانه , بأيامه العاثرة ولياليه الطويلة المملة , وكأنني نسيت أنه ما زال ينتظرني درب من الحزن الطويل فأشفقت من نفسي على نفسي ! .
إنها السعادة التي أبت إلا أن تكون مشوبة بشقائي الذي ولد معي وأدمنت عليه وأبا إلا أن يرافقني مشوار الحياة حتى النهاية ؛ لم يكن الأمر باختياري ولا عن جهل مني بل لأمر أراده الله لي , فقيض لي أولئك الذين كانوا يشحذون سكاكينهم خلسة خلف أستار الليل ليذبحوني من الوريد إلى الوريد دون ذنب أو جريرة , فقط لأنني أردت أن أعيش لا كما يشتهون , وفي غابة استشرى فيها الظلم حكموا علي هناك وتركوني فريسة للوحوش الضارية التي لا تفهم من العدل سوى منطق القوة ..! .
وعلى كره مني بدأت أعد السنوات من جديد ولكنني لست وحدي هذه المرة بل كنت معي , شريكتي في كل شيء , وكأنه كتب عليك من الأزل أن تنحري نفسك على مذبح حبي ؛ فاستسلمت مثلي لقدرك وقررت أن تواجهي الإعصار بإصرار , فالحياة معركة ويجب علينا أن نخوضها بغض النظر عن النتائج .
وبحق لقد كنت أجرأ مني وأصبر من أجل بلوغ الغاية التي كنا نسعى لتحقيقها وبعد أن كنت قد ظننت أنني الأقوى بدأت استمد قوتي منك لأنك تمردت في زمن استسلم فيه الناس جميعا لضعفهم .
وليس منة مني عليك ولا فضل عندما أركع أمام قدميك لأعلنها صراحة وعلى الملأ بأنك فقت بنات جنسك السابقات منهن واللاحقات , وقد عجزت النساء أن يلدن مثلك . فعظمة الإنسان تقدر بأفعاله لا بالنتائج التي يحققها .
يقول سبينوزا : " إذا كان العقل لا يطلب شيئا يتعارض مع الطبيعة , لذلك يجب على كل إنسان أن يحب نفسه , ويبحث عما يفيده , ويسعى إلى كل شيء يؤدي به في الحقيقة إلى حالة أعظم من الكمال " . ولا أدري كيف تذكرت وأنا أتكلم عنك الآن كلمات أصبحت جزءا من ذاكرتي , بل تاقت إليها نفسي , وهي " دعوني أذهب , دعوني أذهب فرحا مبتهجا لأموت موتة فيلسوف ... " هكذا كان يصيح كمبانلا حين أسلم إلى الجلاد الذي ساقه إلى حبل المشنقة حاملا فوق كتفيه إعلانا يقول " ملحد دنس اسم الله " وبعد ثلاثمائة عام على وفاته دون اسمه بين القديسين .
رغم هذا وذاك كثيرا ما كنا نستسلم للحظات نسرقها في غفلة من الدهر لنؤكد صدق هذا الحب العظيم ونرتقي به حين عجز عن ذلك الآخرون فاتهمونا زورا وبهتانا , واغتسلوا بدمائنا لينفضوا عن أنفسهم أدران خطاياهم ونسوا أن أيديهم وشفاههم ما تزال ملطخة تحمل آثار وحشيتهم , لقد كنت يقينا أعلم أنني أريد شيئا وأدرك تماما ماذا أريد وأعمل جاهدا من أجل تحقيقه , وقد خطوت خطوات كانت جديرة بالوقوف عندها , لكنها ولسوء حظي كانت أبدا تأتي بنتائج عكسية وكأن يدا خفية تعبث بها فتغير وجهتها إلى حيث لا أشتهي .
وكنت أرد الأمر دائما إلى أنني بحاجة لمن يقف معي موقف صدق , لا رياء فيه ولا كذب ولا نفاق وإنما صادر عن حب ونصيحة متلازمتين كي أستطيع التحكم بدفة السفينة وأوجهها الوجهة التي أريد , والذي كان يريحني ويقوي من عزيمتي هو أنك كنت تقومين بأكثر مما هو مطلوب منك , وقد كان هذا بالنسبة لي انتصار عظيم ودليل بما لا يقبل الشك على صحة اختياري , ولكن هذه اليد الخفية كانت دائما تلاحقني وكأنها قدري ولكنها عجزت عن النيل من عزيمتي ؛ لذلك تجاوزت قدري وقلت لك : لماذا أدفع ضريبة العظماء .. رغم يقيني بأنني لست عظيم ..؟! . ولكنه كتب علي أن أشاركهم هذه الضريبة العظيمة رغم أنفي ..! .
وحتى إذا كانت الغاية لشقاء أراده الله لي فمن العدل أن يكون الشقاء على قدر المستطاع , ولكنه فاق مقدرتي ...! .
وأكثر ما كان يعذبني هي تلك اليد التي كانت تهدم كل الذي تبنينه – ألا تبت أيديهم – لذلك كنت أعيش حالة من الصراع الداخلي لأعيد بناء نفسي من جديد وأغسلها من أدران الماضي , لألتقي وإياك على صفحة بيضاء نقية ؛ وكذلك كنت أعيش حالة من الصراع الخارجي مع أولئك الذين أبوا علي إلا أن أتجرع الحياة علقما وحالوا بيني وبين حلاوتها وكأنهم عجزوا عن تذوق حلو الحياة إلا من خلال الشقاء الذي فرض علي عنوة ..! .
وكلما كان الضغط يزداد على القاعدة كلما كان البناء يشمخ ومع كل لبنة كنا نضعها كنت أتجاوز إحدى عتبات الماضي لأعبر إلى مستقبل أكثر إشراقا وحافلا بالكثير من النجاحات والتي لك فيها اليد الطولى والقسط الأكبر من الفضل , بل لك الفضل كله ..! .
ولم تكن هذه الحقيقة خافية على أحد , فقد كان يعلم بها القاصي والداني لأنه ليس لأحد إلى إنكار ذلك من سبيل , وهم يشهدون الأمثلة التي تسطرينها في كل وأنت معي , وكفاك فخرا أنك فعلت ما عجز عنه أولئك اللذين يدعون الرجولة تطفلا عليها .. فالرجولة بحد ذاتها لم تكن في يوم ما ميزة للذكور بل كانت في كثير من الأحيان وبالا عليهم فكم من النساء اللواتي تفوقن على الرجال لأن عظمة المرأة لا توازيها عظمة .
لما مات كثير عزة ما تخلفت امرأة عن جنازته ولا رجل فقال أبو جعفر : أفرجوا لي عن جنازة كثير لأرفعها وجعل يضرب النساء بكمه ويقول : تنحين يا صويحبات يوسف . فانتدبت امرأة منهن , فقالت : يا بن رسول الله صدقت , إنا لصويحبات يوسف وقد كنا له خيرا منكم له . فقال لها أبو جعفر : أنت القائلة إنكن ليوسف خير منا ؟ قالت : نعم , أتؤمنني غضبك يا بن رسول الله ؟ قال : أنت آمنة . قالت : نحن دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب والتمتع والتنعم , وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه في الجب , وبعتموه بأبخس الأثمان وحبستموه في السجن ..! فقال أبو جعفر : لله درك ! ولن تغالب امرأة إلا غلبت . ثم قال لها : ألك بعل ؟ قالت : لي من الرجال من أنا بعله . قال أبو جعفر : صدقت , مثلك من تملك بعلها ولا يملكها .
كيف وقد أقنعنا أنفسنا بكذبة أسميناها الرجولة وجعلنا منها منبرا نلقي من عليه خطب الزيف والبهتان , ونسينا قولة عمر بن الخطاب التي هزت المنبر عندما قال : " أصابت امرأة وأخطأ عمر " . ومن منا يجهل عمر عندما يقاس الرجال .
ولا أدري كيف وقعت الواقعة وحصل ما لم يكن في الحسبان وبدأ الرجال يفيقون من غفوتهم على حظي العاثر ليمارسوا رجولتهم في موقع أبعد ما يكون عن الرجولة , ولكن لا حيلة لنا في ذلك ومعاوية يقول عندما انتصر على علي في وقعة صفين : " فسبحان من جامع إلي ومفرق عنه ...!! " .
وكان هول الصدمة شديدا عندما أحسست أن الأمر بدأ يفلت من يدي ولم يعد الخيار لي ولا لك مما زاد الطين بله . حيث بدأنا نتخبط دون أن يكون لنا من الأمر شيء وكان الذي حصل أكثر مما كنت أتوقع بكثير مثلما أنت لم تكوني تتوقعي ذلك أيضا , وكنا نظنها زوبعة سرعان ما تنتهي ...! .
وكم كان بودي أن أثير مسألة كنت قد راهنت عليها منذ اللقاء الأول بيني وبينك , وما زلت أراهن عليها لأنها كانت مفتاح الخلاص بالنسبة لنا ونقطة الفصل ولحظة الحسم , وقد تناقشنا أنا وأنت في ذلك كثيرا ولكنك كنت تتجنبين الخوض فيها دون أن أدري ما هو السبب الحقيقي من وراء ذلك , أو ربما كنت أدري , لكنني لم أكن أملك الكثير من الخيارات ..؟! .
و تمثلت قول قس بن ساعده الأيادي عندما قيل له , ما أفضل المعرفة ؟ قال : معرفة الرجل نفسه . قيل له : فما أفضل العلم ؟ قال : وقوف المرء عند علمه . قيل له : فما أفضل المروءة ؟ قال : استبقاء الرجل ماء وجهه .
لذلك تركت لك وحدك أن تقرري وتحسمي أمرك في هذا الشأن , فأنا لم أكن أرغب قط في أن أفرض عليك أمرا قد تظنين أن له بدائل أخرى تجنبك الوقوع في حرج أنت بغنى عنه , رغم أنك كنت تلوحين به أحيانا ولكنه لم يكن بالقدر الذي يحقق الغاية منه وليتك فعلت .. إذا لما كان الذي كان ...! .
يقول ديمقريطس : " لا ينبغي أن تعد النفع الذي فيه الضرر العظيم نفعا , ولا الضرر الذي فيه النفع العظيم ضررا , ولا الحياة التي لا تحمد أن تعد حياة " .
وسوف أتجاوز هذه المسألة كي نتجنب الدخول في متاهة قد لا نخرج منها , ولندع كل شيء لوقته ربما الأيام القادمة تفصح لنا عن الكثير من الخبايا , وتتكشف الأقنعة لنقف على حقيقة الأشياء وجوهرها . وإن أكثر ما كان يحيرني في الأمر هي حالة التردد التي كان يعيشها أهلك , وحالت الفوضى التي استفحلت بينهم ولكنهم ضربوا صفحا عنها مقنعين أنفسهم بأن الذي يمارسونه هو عين الصواب , لأنهم كانوا حبيس ثقافة ضيقة لا تتجاوز حدود أسرتهم ونسوا بل تناسوا أنهم يعيشون في مجتمع يفرز ثقافات مختلفة نتأثر بها ونؤثر فيها , شئنا ذلك أم أبينا ...!؟ .
وعندما يتجاوز الحب بين أفراد الأسرة الواحدة حدوده الطبيعية يصبح الحب عبئا ؛ كما أن التماسك إذا زاد عن حده انفرط العقد . والرسول ( ص) يقول : " لا إفراط ولا تفريط " .
ولشد ما استغربت عندما وجدت نفسي بين عدة أشخاص لم أعرف من هو سيد الموقف فيهم , ومن هو صاحب القرار بينهم , وأظنك لا تنكرين هذا ويقينا تعلمينه أكثر مني وقد عشت التجربة حقيقة واقعة لأكثر من مرة .
يقول علي بن أبي طالب : " قصم ظهري اثنان , عالم متهتك وجاهل متنسك , هذا ينفر الناس بتهتكه , وهذا يضل الناس بتنسكه " . والسؤال الذي يتبادر إلى ذهني ويبحث بإلحاح عن جواب , من يسوق من في بيتكم ..؟ النساء تسوق الرجال , أم الرجال يسوقون النساء ..؟ النساء تأتمر بأمر الرجال .. أم الرجال يأتمرون بأمر النساء ..؟ وإذا الأمر محصورا في الرجال فمن السيد ..؟ وإذا كان محصورا في النساء فمن هي صاحبة الأمر والنهي ..؟ وأنا أقدر خطورة هذه التركيبة تماما لأنني عانيت منها كثيرا وكنت ضحيتها بصورة أو بأخرى , لذلك استوقفتني كثيرا , وفرضت علي أن أعيد ترتيب الأوراق من جديد , ولولا أن بعض الظن إثم لذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير .. ويا خوف قلبي من ظنوني ..! .
ولكنني كنت حريصا دائما بأن لا أقحمك في أمر أنت خارج دائرته , وأرجو أن تكوني حريصة على البقاء خارج هذه الدائرة فإنها أشبه ما تكون بيوم الحشر , يوم يفر المرء من بنيه وأمه وأبيه ولكل يومئذ شأن يغنيه .
وأظنك بل أنا على يقين بأنك وعيت المسألة تماما بكل أبعادها , ولست بحاجة إلى كثير عناء لتعرفي من معك ومن عليك بغض النظر عما يقال من كلمات الحب والحرص التي لا تتجاوز الحناجر ..! .
إذن لماذا كتب عليك أنت بالذات دون أخوتك كما كتب علي أن ندفع ضريبة الأخطاء التي ارتكبتها البشرية من آدم إلى قيام الساعة ! .
ألا تظنين أن في ذلك الكثير من الظلم والأنانية عندما يلهث كل واحد منهم وراء تحقيق رغباته دون أن يحسب لرغباتك حسابا . ثم من أعطاهم الحق بأن يختاروا لك بينما اختار كل واحد منهم لنفسه وكنت عونا لهم على ذلك , إذ وقفت معهم جميعا لتحقيق رغباتهم دون أن تعترضي على أحد منهم في شيء , والأمثلة على ذلك كثيرة وليس بي حاجة لأن أذكرك بها فأنا على يقين بأنك تذكرين الأشياء كلها وبأدق تفاصيلها ما لك وما عليك , ما أنت فعلتيه من أجلهم , وكيف كان الرد عليك . والله تعالى يقول : " وهل جزاء الاحسان إلا الاحسان " .
أليس من العدل أن تكون المعاملة بالمثل , أم أنهم أرادوا أن يجعلوا منك قربانا للتكفير عن أخطائهم ..؟! .
ثم من أباح لهم هدر دمي , ونصبوا من أنفسهم آلهة تقرر مصائر البشر , يحددون أعمارهم وأرزاقهم وفي أي أرض يموتون , ويونون في اللوح المحفوظ نصيبهم من الشقاء والسعادة ..؟! .
إنها لمصيبة جليلة عندما يستحكم البشر برقاب البشر ليعيثوا في الأرض فسادا ..! .
اعذريني فسوف أقف مكرها عند هذا الحد محاولا أن أتجنب إثارة هذه المسألة معك لأكثر من ذلك رغم أنه لدي الكثير الكثير مما أود البوح به , ولكنني وجدت أن الصمت عن هذه المسألة أبلغ , وسوف أترك لك وحدك الحكم ..! .
وأنا على يقين بأن حكمك سوف يكون صائبا لأنك – كما يدعي أهلك – بينما أنا متأكد من ذلك بأنك امرأة عاقلة وجريئة وجسورة , وتضع الأشياء مواضعها وتملك القدرة على التكيف مع الظروف واجتياز المحن بصبر وتدبر وحسن تصرف . وأريد فقط هنا أن أذكرك بقول إليانور الإكتانية زوجة الملك لويس السابع الذي قالت عنه : " إنها تزوجت ملكا فلم تجده إلا راهبا , لقد كان يعمل جادا في أداء واجباته الملكية , ولكن فضائله قضت عليه " .
أليس من السخف أن تتبدل المواقف والآراء والمشاعر بين عشية وضحاها , وأين احترام الانسان لذاته وللآخرين , ومن العار علينا عندما ندرك أن الانسان أحط في أحاسيسه ونزعته من الوحوش الضارية وقد خلقه الله في أحسن تقويم , ومن الذي منحنا الحق بأن نحيل الحياة إلى مهزلة , ثم ندوس على مشاعر الآخرين نسحقها تحت أقدامنا ونقهقه تعبيرا عن نشوة النصر ..! .
قد أكون أثقلت عليك وهذه هي حالي مذ عرفتك والذي يزيد طمعي فيك هو حلمك , ونفسك التي أبت إلا أن تموت عظيمة ! وكلما أعلن التوبة بأن لا أعود وأسلك هذه الطريق ثانية , يدفعني حبي لك وشوقي إليك وحرصي عليك للعصيان من جديد , فألقي براية الاستسلام جانبا وأعلن الثورة مرة أخرى فقد علمني حبك أن لآ أكون محايدا , وأن لا أعيش زمن الانحطاط .. وعلمني حبك بأن أكون قديسا لا أساوم على الخرافات .. وأن أكسر كل العادات ..! .
فهذه قاعدتنا وأنت التي وضعت لبناتها .. فاعذريني على قسوتي ولا تأخذيني بكلماتي فإن لك في القلب مكانا لا يتسع لغيرك ولك في الذاكرة رسم لم تبدعه بعد ريشة فنان ولك في البال أيام لم تسجلها كتب التاريخ بعد . هذا هو أنا وهؤلاء هم غيري .. وهل يستوي من استسلم لك طائعا وانقاد لك دون زمام وما عصاك في صغيرة ولا كبيرة مع من آثر نفسه وركن إلى أنانيته مدعيا الحب والحرص ومتى كان الحب قيدا والحرص سجنا ..؟
وأتمنى على هؤلاء الذين يحبوننا بأكثر مما نريد وبخلاف ما نريد أن يثوبوا إلى رشدهم وأن لا يشوهوا صورة الحب التي أرادها الله لنا . فإذا عجزنا عن فهم سر قدسية الحب علينا أن لا نحب ولندع الحب لأولئك الذين نذروا أنفسهم له , ومن الظلم أن نتغالب على السبل فلكل منا سبيله ..؟! .
فاسمحي لي يا سيدتي , ودعيني أغمرك بالقبلات كي يستحيل وجهك الرائع تحت فيض قبلاتي إلى سماء صغيرة مرصعة بالنجوم ولمسة خديك تشبه صرير بنفسجة راقدة على فراش من الورد , وجسمك بستان أزهار تفتحت براعمها في صدرك .. وكلما أحاول الاقتراب منك أحس بأنفاسك تلامس شفتي أحر من الموقد المقدس حيث يحرق البخور .
سأجعل من عيني واحة خضراء فسيحة , وأجعل من البؤبؤ بحيرة صغيرة وأدعوك لتستحمي فيها ثم أجعل لك من خدي وسادة تضعين رأسك عليها ومثل خيمة غجرية , خصلات شعرك المبللة تغطي وجهك ويخال لي أن وجهك بدأ يصعد شيئا فشيئا وكأنه قمر هرب من درب مجرته , وشفتاك نرجستان نامتا على كنز من اللؤلؤ والمرجان , وسوف أجعل من عظامي صليبا أصلب نفسي عليه لأفتديك بعذابي وأهبك السعادة كاملة .
واعذريني إن عجزت عن تقديم المزيد فإن هذا أقصى ما في وسعي وكل ما يمكن أن أعطيه .
قيل لمعاوية بن أبي سفيان , من أحب الناس إليك يا أمير المؤمنين ؟ قال : من كانت له عندي يد صالحة . قيل له , ثم من ؟ قال : من كانت لي عنده يد صالحة .
فلي عندك يد ولك عندي ألف يد ... فهاتي يدك وضعيها في يدي لنهاجر مثل السنونو نحمل معنا فقط ذكرياتنا الجميلة ؛ ونترك جروحنا لأولئك الذين طعنونا غيلة وغدرا , فإن الأرض لم تعد لنا بدار مقام .
9 / 01 / 2010
علي سليفي ELî SiLîVî
ومثل وشوشة العصافير تبدين رغبة ملحة , في أن أتحدث لك عن نفسي .........؟! .
ورغم غرابة السؤال ألا إنه أثار انتباهي كثيرا , ثم تساءلت .. ترى ما الذي تعرفينه عني .. وما الذي تجهلينه .. ثم ما الذي تودين أن تعرفيه .. وهل بقي شيء لم تعرفينه بعد ..؟
أسئلة كثيرة تجاذبتني .. منها ما يتلني يريد العودة بي إلى البدايات , ومنها ما يدفعني نحو المستقبل وبما يحمله من الأسرار الدفينة , ومنها ما يريد يبقيني في حالة متأرجحة بين الماضي والمستقبل ويغريني بأن أعيش الحاضر بكل ما فيه ؛ فقد فات الذي فات ومؤمل الغد يجهل ما ينتظره .
وبين هذه الأسئلة المتنافرة وقفت مبهوتا للحظات .. ولكنني أدركت يقينا بأن لا مفر لي من الإجابة , لأنها عنوان الحقيقة ...! .
والسؤال الذي أقلقني كثيرا ترى من أين أبدأ ..؟ ففي حياتي بدايات كثيرة , لكنها لم تنتهي بعد ولن تنتهي أبدا , لأنني أريد إحدى نهايتين لا بديل لي عنهما , ولا حيلة لي فيهما والله يخير لي .
وقد أثرت أن لا أخوض في النهايتين لأنني تذكرت قول هيراقليطس : " إن الكلام في غير وقته يفسد العمر كله " .
ورغم جهلي بالذي تريدينه مني , وبأية واحدة من البدايات أبدأ كي أريحك وأستريح ...! .
لكن المسألة لم تكن بالسهولة التي تتصورين , لأن لي مع كل بداية حديث ذو شجون ..! وأمام إحساسي برغبتك وإصرارك على معرفة ما تجهلينه عني لم يكن لي إلا أن أطلقت العنان لحواسي وحدسي معا علها ترشدني إلى ما يدور في نفسك وما تقر به عينك , أو ربما تهيج أشجانك .. أو توقظ فيك الشكوك .. أو تريحك منها .. أو تدفعك خطوة إلى الأمام .. أو ترجع بك خطوات إلى الوراء .. أو تنقلك إلى عالم من الهدوء والسكينة , ومن يدري ربما تحيلك إعصارا ..!؟ .
ومهما تكن النتيجة فقد اتخذت قراري وآليت أن أمتثل لرغباتك أو أوامرك أو وحيك , سمها ما شئت فقد اعتدت أن لا أعصي لك أمرا ..! .
واعذريني على ذكر كلمة اعتدت إذ لا تليق بك , فالعادة تختلف عن العبادة ومصيبة المصائب كلها عندما تصبح العبادة عادة ؛ بينما من حقك علي ومن واجبي تجاهك أن أطيعك في كل ما تأمرينني به , ثم أجمع روحي ومشاعري وكل حواسي وأنحرها كالذبيحة قربانا عند قدميك .. لأنك كنت وما زلت وسوف تبقين إلى ما شاء الله مصدر إلهامي , وأنت أهل لذلك .
تقول مادلين سكودري : " إن ما أريد أن تتعلمه المرأة قبل كل شيء , هو أن لا تتكلم كثيرا عما تعرفه جيدا , وألا تتكلم إطلاقا عما لا تعرفه , أريد ألا تكون مفرطة في العلم أو مفرطة في الجهل , وأن تعنى بعقلها بقدر عنايتها بشخصها " .
أرجو أن لا ينفد صبرك , وأنا أدور في حلقة مفرغة علني أمسك برأس الخيط الذي أبدأ منه . ولكي لا أطيل عليك وأرحمك من دوامة قد تتوه بك كثيرا فتفقدك صوابك .
أريد أن أبدأ معك من السنوات العشر الأخيرة – أرجو أن لا تستغربي ولا تتساءلي – لأنها احتوت عصارة عمري كله , ماضيه وحاضره وربما مستقبله .
يقول كليمنصو : " كل ما أعرفه تعلمته بعد الثلاثين من عمري " . فكلنا يعيش مرحلة من الطيش والنزوات قد تطول أو تقصر , ألا إنني عشت هذه المرحلة بأكثر مما ينبغي لأسباب كثيرة تضافرت على ذلك ربما تعرفين منها القليل وتجهلين عنها الكثير . ولا بد أن يأتي اليوم الذي تعرفين فيه كل شيء بأدق تفاصيله , لا أدع صغيرة ولا كبيرة إلا أحصيتها لك , ففي ذلك راحة كبيرة لنفسي وفائدة عظيمة لك .
ومن سواك أشكو إليه همي وحزني , وما آلت إليه حالي وأمنحك تجربتي لتكون لك ذخرا وبالله توفيقك .
يقول يسوع عليه السلام : " ازرعوا لأنفسكم بالبر , احصدوا بحسب الصلاح , احرثوا لأنفسكم حرثا فإنه وقت لطلب الرب , حتى يأتي ويعلمكم البر , قد حرثتم النفاق حصدتم الإثم , أكلتم ثمر الكذب " .
لقد آثرت السنوات العشر الأخيرة , على السنوات التي بدأت تقترب من الثمان وهي مدة معرفتي بك – ولا أدري إن كنت أعطيت الكلمة حقها أم أنني ما زلت أجهل عنك الكثير – لأنها كانت بالنسبة لي بداية التكوين , وبداية إدراكي للعالم الخارجي الذي يحيط بي وكذلك كانت في الوقت ذاته بداية تحول وبناء لعالمي الداخلي , أو كما يسميه البعض – تجنيا وإسفافا – بداية الهدم لعالمي الداخلي , لأن الأعمار في زمن التخريب هدم ..! .
هكذا شئت أو هكذا شاءت لي الأقدار بأن أخرج مهزوما من معركة غير متكافئة , فكانت الغلبة علي لا لي , فإن لكل حصان كبوة .. كما إن لكل عالم هفوة .
وكنت دائما أحاول أن أقنع نفسي بأن الجولة الأخيرة لم تنتهي بعد . ولكن أسقط الأمر في يدي , وعلى استحياء مني ألقيت نظرة عاثرة إلى الوراء , فإذا بالسراب الذي كنت ألهث وراءه أحسبه ماءا قراحا قد استحال لهبا في أتون صحراء مترامية الأطراف ., وفجأة وجدت نفسي بلا زاد ولا ماء ولا راحلة ..؟! .
وتأملت سيفي الذي لم أزل أمسك بمقبضه لأعطي نفسي دفعا آخر باتجاه حسم المعركة لصالحي , لكنني لم أحتمل هول الصدمة عندما أدركت أن سيفي من خشب .
ثم تذكرت قول ألبرتس : " إن التجربة وحدها هي التي توصل إلى الحقائق المؤكدة " . ثم بدأت أنفصل عن جسدي ببطء , وبدأت الهوة تتسع بيننا , حاولت أن أبكي .. أن أحيل تلك الصحراء إلى بحر من الدموع , وأفجر الأرض ينابيعا وأنهارا . اعتصرت عيناي متمنيا أن لا تخذلني فانحدرت على خدي دمعة واحدة خجولة ؛ لقد كانت البقية الباقية ..! .
وأدركت حينها كم هي دموع الرجال عزيزة , حاولت أن ألحق بجسدي وأتلمسه هل حقا أنني رجل ..؟ إذن لماذا كانت دموعي رخيصة حيث أنفقتها دون أن أجني منها ثمارا ولا غلالا , واليوم استجديها في زمن عز فيه مطلبها .
لقد كان ذلك خطأي أو ثمنا لخطيئتي لأنه فرض علي أن أعيش في زمن غير زمني , وبين أناس هم ليسوا من جلدتي , وعلى قدر المصيبة يكون المصاب .
ومثل شريط سينمائي تخيلت مصعب بن الزبير عندما قام من الليل فلبس لباس الحرب وتوشح بسيفه وأدركت سكينة بنت الحسين وقد كانت زوجته أنه لا محالة مقتول . فصاحت وا مصعباه ...! . فالتفت إليها بهدوء وقال لها : أو كل هذا الحب لي ؟ قالت : أي والله وما أخفيه أعظم . قال : لو كنت أعلم ذلك لكان بيني وبينك أمر ..!؟ ثم خرج ولم يعد .
إنه لثمن باهظ ومصيبة جليلة عندما يستوي الدينار بالدرهم , وعندما يباع الرجال في أسواق النخاسة سواسية دون تمييز بين عبد وسيد .
عذرا إن كنت قد شطحت قليلا , وأنا الذي اعتدت أن أشطح كثيرا , ولا حيلة لي في ذلك كما لا حيلة لك إلا أن تتحملي شطحاتي رغم أنها لا تسمن ولا تغني من جوع .
يقول سقراط : " لا أعرف سوى شيء واحد وهو أنني لا أعرف شيئا " . ولا أدري لماذا كتب علي أن أدفع ضريبة العظماء , رغم أنني لست عظيما – لا تستغربي – ربما تكون بعض حماقاتي .
لقد كنت طفلا مدللا.. وأضلني الذين هم من حولي قبل أن تضلني السنون , فتمرغ وجهها بالمياه الآسنة قبل أن يتمرغ وجهي .. وخرجت إلى الدنيا معصوب العينين , تتنازعني رغبات شتى دون ضابط ولا ناظم ولا مرشد ولا معلم .. مثل ريشة ألقيت في فلاة تلعب بها الريح كيفما اتفق , وبدأت السنوات تتقاذفني ككرة تتقاذفها الأرجل لا يقر لها قرار .
ولم أكن أدري حينها ماذا تعني السنوات ؛ بل الحياة برمتها لم تكن بالنسبة لي سوى لعبة أطفال , سرعان ما يرهقهم التعب فيأوي كل واحد منهم إلى فراشه ليجد نفسه عصفورا في غابة بكر يطير ولكن بلا جناحين ...؟! .
ومثل يقظة الحالم بدأت أعد السنوات الخوالي على أصابعي .. واحدة .. اثنتان .. ثلاثة .. ثم أعيد الكرة من جديد لعلني أخطأت , أحاول أن أتأكد من أصابع يدي .. إنها عشرة .. فقط عشرة لا تزيد ولا تنقص وهكذا إلى ما لا نهاية ..؟! .
ولكنني كنت أخرج دائما بنتيجة واحدة . أيام تتسارع وسنوات تحترق وقطار العمر يمضي بي من محطة إلى أخرى وأنا أغوص في سبات عميق .
كيف حصل كل هذا .. ومن المسؤول .. وهل كان في غفلة مني .. أم كان عن عمد ونية ..؟
تساؤلات لم تعد تجدي نفعا , يجب أن أبحث لنفسي عن مخرج فالقافلة تسير والركب حثيث . يقول لوك : " إن عقولنا خلقت خالية من كل فكرة كلوحة جرداء ولكننا نكون أفكارنا ومعارفنا من التجربة في الحياة , وهذه التجربة تكون خارجية بالإحساس , ثم تكون باطنية بالتفكير والتأمل " .
من هنا يجب أن أبدأ وأن استرجع في ذاكرتي ما جنيته من تلك السنوات التي مرقت من عمري كما يمرق السهم من الرمية . علني أفيد منها في السنوات المقبلة , أو ربما تكون مفتاحا للغز حيرني وأعجزني عن فتح ولو باب واحد عسى أن أجد فيه مخرجا من تلك الدوامة التي ابتلعت الكثير من السنوات , وكان عزائي في قول لجون لوقه : " إن الإنسان يجب عليه أن يفقد نصف وقته لكي يستطيع أن يفيد من النصف الآخر " .
على هذا الأساس تمتمت لنفسي إن الإنسان الذي اتسعت ثقافته وخبر الحياة وذاق حلوها ومرها لا يستطيع أن يندفع في تيار الحب معصوب العينين جاهلا شخصية المرأة التي يحب . من هنا كانت لحظة التحول في حياتي , ولكنني كنت حينها قد وصلت إلى لحظة اليأس ..! .
ومثلما بزوغ الشمس عند فجر جديد حيث تتلاشى تحت وطأتها عتمة الليل لتتهادى إلى العالم السفلي .. ومثلما تكويرة القمر عندما يتحرر من غيمة سوداء كثيفة فيحيل الليل أنسا بعد وحشة .. ومثلما النسمة عندما تنطلق من معقلها فتداعب خصلات شعرك الناعمة , وتلامس شفتيك برفق مخافة أن تخدشهما .. ومثلما فرحت الوردة عندما تذوب ابتسامتها بين قطرات الندى المتساقطة على شفتيها فتملأ الفضاء من حولها عبقا وأريجا .
هكذا وفي لحظة اليأس انبعث الأمل من جديد ..! لقد كنت أنت ..! .
أين كنت ..؟ وكيف جئت ..؟ وأي طريق سلكت ..؟ وماذا تحملين معك ..؟ أسئلة كثيرة أدركت من خلالها أنني بدأت , ولكنها بداية جديدة .. جديدة بكل ما فيها , بشكلها وجوهرها .. بكمها وكيفها .. بحزنها وفرحها .. بآلامها وآمالها . وحسبت أنني خلفت ورائي الماضي بكل أحزانه , بأيامه العاثرة ولياليه الطويلة المملة , وكأنني نسيت أنه ما زال ينتظرني درب من الحزن الطويل فأشفقت من نفسي على نفسي ! .
إنها السعادة التي أبت إلا أن تكون مشوبة بشقائي الذي ولد معي وأدمنت عليه وأبا إلا أن يرافقني مشوار الحياة حتى النهاية ؛ لم يكن الأمر باختياري ولا عن جهل مني بل لأمر أراده الله لي , فقيض لي أولئك الذين كانوا يشحذون سكاكينهم خلسة خلف أستار الليل ليذبحوني من الوريد إلى الوريد دون ذنب أو جريرة , فقط لأنني أردت أن أعيش لا كما يشتهون , وفي غابة استشرى فيها الظلم حكموا علي هناك وتركوني فريسة للوحوش الضارية التي لا تفهم من العدل سوى منطق القوة ..! .
وعلى كره مني بدأت أعد السنوات من جديد ولكنني لست وحدي هذه المرة بل كنت معي , شريكتي في كل شيء , وكأنه كتب عليك من الأزل أن تنحري نفسك على مذبح حبي ؛ فاستسلمت مثلي لقدرك وقررت أن تواجهي الإعصار بإصرار , فالحياة معركة ويجب علينا أن نخوضها بغض النظر عن النتائج .
وبحق لقد كنت أجرأ مني وأصبر من أجل بلوغ الغاية التي كنا نسعى لتحقيقها وبعد أن كنت قد ظننت أنني الأقوى بدأت استمد قوتي منك لأنك تمردت في زمن استسلم فيه الناس جميعا لضعفهم .
وليس منة مني عليك ولا فضل عندما أركع أمام قدميك لأعلنها صراحة وعلى الملأ بأنك فقت بنات جنسك السابقات منهن واللاحقات , وقد عجزت النساء أن يلدن مثلك . فعظمة الإنسان تقدر بأفعاله لا بالنتائج التي يحققها .
يقول سبينوزا : " إذا كان العقل لا يطلب شيئا يتعارض مع الطبيعة , لذلك يجب على كل إنسان أن يحب نفسه , ويبحث عما يفيده , ويسعى إلى كل شيء يؤدي به في الحقيقة إلى حالة أعظم من الكمال " . ولا أدري كيف تذكرت وأنا أتكلم عنك الآن كلمات أصبحت جزءا من ذاكرتي , بل تاقت إليها نفسي , وهي " دعوني أذهب , دعوني أذهب فرحا مبتهجا لأموت موتة فيلسوف ... " هكذا كان يصيح كمبانلا حين أسلم إلى الجلاد الذي ساقه إلى حبل المشنقة حاملا فوق كتفيه إعلانا يقول " ملحد دنس اسم الله " وبعد ثلاثمائة عام على وفاته دون اسمه بين القديسين .
رغم هذا وذاك كثيرا ما كنا نستسلم للحظات نسرقها في غفلة من الدهر لنؤكد صدق هذا الحب العظيم ونرتقي به حين عجز عن ذلك الآخرون فاتهمونا زورا وبهتانا , واغتسلوا بدمائنا لينفضوا عن أنفسهم أدران خطاياهم ونسوا أن أيديهم وشفاههم ما تزال ملطخة تحمل آثار وحشيتهم , لقد كنت يقينا أعلم أنني أريد شيئا وأدرك تماما ماذا أريد وأعمل جاهدا من أجل تحقيقه , وقد خطوت خطوات كانت جديرة بالوقوف عندها , لكنها ولسوء حظي كانت أبدا تأتي بنتائج عكسية وكأن يدا خفية تعبث بها فتغير وجهتها إلى حيث لا أشتهي .
وكنت أرد الأمر دائما إلى أنني بحاجة لمن يقف معي موقف صدق , لا رياء فيه ولا كذب ولا نفاق وإنما صادر عن حب ونصيحة متلازمتين كي أستطيع التحكم بدفة السفينة وأوجهها الوجهة التي أريد , والذي كان يريحني ويقوي من عزيمتي هو أنك كنت تقومين بأكثر مما هو مطلوب منك , وقد كان هذا بالنسبة لي انتصار عظيم ودليل بما لا يقبل الشك على صحة اختياري , ولكن هذه اليد الخفية كانت دائما تلاحقني وكأنها قدري ولكنها عجزت عن النيل من عزيمتي ؛ لذلك تجاوزت قدري وقلت لك : لماذا أدفع ضريبة العظماء .. رغم يقيني بأنني لست عظيم ..؟! . ولكنه كتب علي أن أشاركهم هذه الضريبة العظيمة رغم أنفي ..! .
وحتى إذا كانت الغاية لشقاء أراده الله لي فمن العدل أن يكون الشقاء على قدر المستطاع , ولكنه فاق مقدرتي ...! .
وأكثر ما كان يعذبني هي تلك اليد التي كانت تهدم كل الذي تبنينه – ألا تبت أيديهم – لذلك كنت أعيش حالة من الصراع الداخلي لأعيد بناء نفسي من جديد وأغسلها من أدران الماضي , لألتقي وإياك على صفحة بيضاء نقية ؛ وكذلك كنت أعيش حالة من الصراع الخارجي مع أولئك الذين أبوا علي إلا أن أتجرع الحياة علقما وحالوا بيني وبين حلاوتها وكأنهم عجزوا عن تذوق حلو الحياة إلا من خلال الشقاء الذي فرض علي عنوة ..! .
وكلما كان الضغط يزداد على القاعدة كلما كان البناء يشمخ ومع كل لبنة كنا نضعها كنت أتجاوز إحدى عتبات الماضي لأعبر إلى مستقبل أكثر إشراقا وحافلا بالكثير من النجاحات والتي لك فيها اليد الطولى والقسط الأكبر من الفضل , بل لك الفضل كله ..! .
ولم تكن هذه الحقيقة خافية على أحد , فقد كان يعلم بها القاصي والداني لأنه ليس لأحد إلى إنكار ذلك من سبيل , وهم يشهدون الأمثلة التي تسطرينها في كل وأنت معي , وكفاك فخرا أنك فعلت ما عجز عنه أولئك اللذين يدعون الرجولة تطفلا عليها .. فالرجولة بحد ذاتها لم تكن في يوم ما ميزة للذكور بل كانت في كثير من الأحيان وبالا عليهم فكم من النساء اللواتي تفوقن على الرجال لأن عظمة المرأة لا توازيها عظمة .
لما مات كثير عزة ما تخلفت امرأة عن جنازته ولا رجل فقال أبو جعفر : أفرجوا لي عن جنازة كثير لأرفعها وجعل يضرب النساء بكمه ويقول : تنحين يا صويحبات يوسف . فانتدبت امرأة منهن , فقالت : يا بن رسول الله صدقت , إنا لصويحبات يوسف وقد كنا له خيرا منكم له . فقال لها أبو جعفر : أنت القائلة إنكن ليوسف خير منا ؟ قالت : نعم , أتؤمنني غضبك يا بن رسول الله ؟ قال : أنت آمنة . قالت : نحن دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب والتمتع والتنعم , وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه في الجب , وبعتموه بأبخس الأثمان وحبستموه في السجن ..! فقال أبو جعفر : لله درك ! ولن تغالب امرأة إلا غلبت . ثم قال لها : ألك بعل ؟ قالت : لي من الرجال من أنا بعله . قال أبو جعفر : صدقت , مثلك من تملك بعلها ولا يملكها .
كيف وقد أقنعنا أنفسنا بكذبة أسميناها الرجولة وجعلنا منها منبرا نلقي من عليه خطب الزيف والبهتان , ونسينا قولة عمر بن الخطاب التي هزت المنبر عندما قال : " أصابت امرأة وأخطأ عمر " . ومن منا يجهل عمر عندما يقاس الرجال .
ولا أدري كيف وقعت الواقعة وحصل ما لم يكن في الحسبان وبدأ الرجال يفيقون من غفوتهم على حظي العاثر ليمارسوا رجولتهم في موقع أبعد ما يكون عن الرجولة , ولكن لا حيلة لنا في ذلك ومعاوية يقول عندما انتصر على علي في وقعة صفين : " فسبحان من جامع إلي ومفرق عنه ...!! " .
وكان هول الصدمة شديدا عندما أحسست أن الأمر بدأ يفلت من يدي ولم يعد الخيار لي ولا لك مما زاد الطين بله . حيث بدأنا نتخبط دون أن يكون لنا من الأمر شيء وكان الذي حصل أكثر مما كنت أتوقع بكثير مثلما أنت لم تكوني تتوقعي ذلك أيضا , وكنا نظنها زوبعة سرعان ما تنتهي ...! .
وكم كان بودي أن أثير مسألة كنت قد راهنت عليها منذ اللقاء الأول بيني وبينك , وما زلت أراهن عليها لأنها كانت مفتاح الخلاص بالنسبة لنا ونقطة الفصل ولحظة الحسم , وقد تناقشنا أنا وأنت في ذلك كثيرا ولكنك كنت تتجنبين الخوض فيها دون أن أدري ما هو السبب الحقيقي من وراء ذلك , أو ربما كنت أدري , لكنني لم أكن أملك الكثير من الخيارات ..؟! .
و تمثلت قول قس بن ساعده الأيادي عندما قيل له , ما أفضل المعرفة ؟ قال : معرفة الرجل نفسه . قيل له : فما أفضل العلم ؟ قال : وقوف المرء عند علمه . قيل له : فما أفضل المروءة ؟ قال : استبقاء الرجل ماء وجهه .
لذلك تركت لك وحدك أن تقرري وتحسمي أمرك في هذا الشأن , فأنا لم أكن أرغب قط في أن أفرض عليك أمرا قد تظنين أن له بدائل أخرى تجنبك الوقوع في حرج أنت بغنى عنه , رغم أنك كنت تلوحين به أحيانا ولكنه لم يكن بالقدر الذي يحقق الغاية منه وليتك فعلت .. إذا لما كان الذي كان ...! .
يقول ديمقريطس : " لا ينبغي أن تعد النفع الذي فيه الضرر العظيم نفعا , ولا الضرر الذي فيه النفع العظيم ضررا , ولا الحياة التي لا تحمد أن تعد حياة " .
وسوف أتجاوز هذه المسألة كي نتجنب الدخول في متاهة قد لا نخرج منها , ولندع كل شيء لوقته ربما الأيام القادمة تفصح لنا عن الكثير من الخبايا , وتتكشف الأقنعة لنقف على حقيقة الأشياء وجوهرها . وإن أكثر ما كان يحيرني في الأمر هي حالة التردد التي كان يعيشها أهلك , وحالت الفوضى التي استفحلت بينهم ولكنهم ضربوا صفحا عنها مقنعين أنفسهم بأن الذي يمارسونه هو عين الصواب , لأنهم كانوا حبيس ثقافة ضيقة لا تتجاوز حدود أسرتهم ونسوا بل تناسوا أنهم يعيشون في مجتمع يفرز ثقافات مختلفة نتأثر بها ونؤثر فيها , شئنا ذلك أم أبينا ...!؟ .
وعندما يتجاوز الحب بين أفراد الأسرة الواحدة حدوده الطبيعية يصبح الحب عبئا ؛ كما أن التماسك إذا زاد عن حده انفرط العقد . والرسول ( ص) يقول : " لا إفراط ولا تفريط " .
ولشد ما استغربت عندما وجدت نفسي بين عدة أشخاص لم أعرف من هو سيد الموقف فيهم , ومن هو صاحب القرار بينهم , وأظنك لا تنكرين هذا ويقينا تعلمينه أكثر مني وقد عشت التجربة حقيقة واقعة لأكثر من مرة .
يقول علي بن أبي طالب : " قصم ظهري اثنان , عالم متهتك وجاهل متنسك , هذا ينفر الناس بتهتكه , وهذا يضل الناس بتنسكه " . والسؤال الذي يتبادر إلى ذهني ويبحث بإلحاح عن جواب , من يسوق من في بيتكم ..؟ النساء تسوق الرجال , أم الرجال يسوقون النساء ..؟ النساء تأتمر بأمر الرجال .. أم الرجال يأتمرون بأمر النساء ..؟ وإذا الأمر محصورا في الرجال فمن السيد ..؟ وإذا كان محصورا في النساء فمن هي صاحبة الأمر والنهي ..؟ وأنا أقدر خطورة هذه التركيبة تماما لأنني عانيت منها كثيرا وكنت ضحيتها بصورة أو بأخرى , لذلك استوقفتني كثيرا , وفرضت علي أن أعيد ترتيب الأوراق من جديد , ولولا أن بعض الظن إثم لذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير .. ويا خوف قلبي من ظنوني ..! .
ولكنني كنت حريصا دائما بأن لا أقحمك في أمر أنت خارج دائرته , وأرجو أن تكوني حريصة على البقاء خارج هذه الدائرة فإنها أشبه ما تكون بيوم الحشر , يوم يفر المرء من بنيه وأمه وأبيه ولكل يومئذ شأن يغنيه .
وأظنك بل أنا على يقين بأنك وعيت المسألة تماما بكل أبعادها , ولست بحاجة إلى كثير عناء لتعرفي من معك ومن عليك بغض النظر عما يقال من كلمات الحب والحرص التي لا تتجاوز الحناجر ..! .
إذن لماذا كتب عليك أنت بالذات دون أخوتك كما كتب علي أن ندفع ضريبة الأخطاء التي ارتكبتها البشرية من آدم إلى قيام الساعة ! .
ألا تظنين أن في ذلك الكثير من الظلم والأنانية عندما يلهث كل واحد منهم وراء تحقيق رغباته دون أن يحسب لرغباتك حسابا . ثم من أعطاهم الحق بأن يختاروا لك بينما اختار كل واحد منهم لنفسه وكنت عونا لهم على ذلك , إذ وقفت معهم جميعا لتحقيق رغباتهم دون أن تعترضي على أحد منهم في شيء , والأمثلة على ذلك كثيرة وليس بي حاجة لأن أذكرك بها فأنا على يقين بأنك تذكرين الأشياء كلها وبأدق تفاصيلها ما لك وما عليك , ما أنت فعلتيه من أجلهم , وكيف كان الرد عليك . والله تعالى يقول : " وهل جزاء الاحسان إلا الاحسان " .
أليس من العدل أن تكون المعاملة بالمثل , أم أنهم أرادوا أن يجعلوا منك قربانا للتكفير عن أخطائهم ..؟! .
ثم من أباح لهم هدر دمي , ونصبوا من أنفسهم آلهة تقرر مصائر البشر , يحددون أعمارهم وأرزاقهم وفي أي أرض يموتون , ويونون في اللوح المحفوظ نصيبهم من الشقاء والسعادة ..؟! .
إنها لمصيبة جليلة عندما يستحكم البشر برقاب البشر ليعيثوا في الأرض فسادا ..! .
اعذريني فسوف أقف مكرها عند هذا الحد محاولا أن أتجنب إثارة هذه المسألة معك لأكثر من ذلك رغم أنه لدي الكثير الكثير مما أود البوح به , ولكنني وجدت أن الصمت عن هذه المسألة أبلغ , وسوف أترك لك وحدك الحكم ..! .
وأنا على يقين بأن حكمك سوف يكون صائبا لأنك – كما يدعي أهلك – بينما أنا متأكد من ذلك بأنك امرأة عاقلة وجريئة وجسورة , وتضع الأشياء مواضعها وتملك القدرة على التكيف مع الظروف واجتياز المحن بصبر وتدبر وحسن تصرف . وأريد فقط هنا أن أذكرك بقول إليانور الإكتانية زوجة الملك لويس السابع الذي قالت عنه : " إنها تزوجت ملكا فلم تجده إلا راهبا , لقد كان يعمل جادا في أداء واجباته الملكية , ولكن فضائله قضت عليه " .
أليس من السخف أن تتبدل المواقف والآراء والمشاعر بين عشية وضحاها , وأين احترام الانسان لذاته وللآخرين , ومن العار علينا عندما ندرك أن الانسان أحط في أحاسيسه ونزعته من الوحوش الضارية وقد خلقه الله في أحسن تقويم , ومن الذي منحنا الحق بأن نحيل الحياة إلى مهزلة , ثم ندوس على مشاعر الآخرين نسحقها تحت أقدامنا ونقهقه تعبيرا عن نشوة النصر ..! .
قد أكون أثقلت عليك وهذه هي حالي مذ عرفتك والذي يزيد طمعي فيك هو حلمك , ونفسك التي أبت إلا أن تموت عظيمة ! وكلما أعلن التوبة بأن لا أعود وأسلك هذه الطريق ثانية , يدفعني حبي لك وشوقي إليك وحرصي عليك للعصيان من جديد , فألقي براية الاستسلام جانبا وأعلن الثورة مرة أخرى فقد علمني حبك أن لآ أكون محايدا , وأن لا أعيش زمن الانحطاط .. وعلمني حبك بأن أكون قديسا لا أساوم على الخرافات .. وأن أكسر كل العادات ..! .
فهذه قاعدتنا وأنت التي وضعت لبناتها .. فاعذريني على قسوتي ولا تأخذيني بكلماتي فإن لك في القلب مكانا لا يتسع لغيرك ولك في الذاكرة رسم لم تبدعه بعد ريشة فنان ولك في البال أيام لم تسجلها كتب التاريخ بعد . هذا هو أنا وهؤلاء هم غيري .. وهل يستوي من استسلم لك طائعا وانقاد لك دون زمام وما عصاك في صغيرة ولا كبيرة مع من آثر نفسه وركن إلى أنانيته مدعيا الحب والحرص ومتى كان الحب قيدا والحرص سجنا ..؟
وأتمنى على هؤلاء الذين يحبوننا بأكثر مما نريد وبخلاف ما نريد أن يثوبوا إلى رشدهم وأن لا يشوهوا صورة الحب التي أرادها الله لنا . فإذا عجزنا عن فهم سر قدسية الحب علينا أن لا نحب ولندع الحب لأولئك الذين نذروا أنفسهم له , ومن الظلم أن نتغالب على السبل فلكل منا سبيله ..؟! .
فاسمحي لي يا سيدتي , ودعيني أغمرك بالقبلات كي يستحيل وجهك الرائع تحت فيض قبلاتي إلى سماء صغيرة مرصعة بالنجوم ولمسة خديك تشبه صرير بنفسجة راقدة على فراش من الورد , وجسمك بستان أزهار تفتحت براعمها في صدرك .. وكلما أحاول الاقتراب منك أحس بأنفاسك تلامس شفتي أحر من الموقد المقدس حيث يحرق البخور .
سأجعل من عيني واحة خضراء فسيحة , وأجعل من البؤبؤ بحيرة صغيرة وأدعوك لتستحمي فيها ثم أجعل لك من خدي وسادة تضعين رأسك عليها ومثل خيمة غجرية , خصلات شعرك المبللة تغطي وجهك ويخال لي أن وجهك بدأ يصعد شيئا فشيئا وكأنه قمر هرب من درب مجرته , وشفتاك نرجستان نامتا على كنز من اللؤلؤ والمرجان , وسوف أجعل من عظامي صليبا أصلب نفسي عليه لأفتديك بعذابي وأهبك السعادة كاملة .
واعذريني إن عجزت عن تقديم المزيد فإن هذا أقصى ما في وسعي وكل ما يمكن أن أعطيه .
قيل لمعاوية بن أبي سفيان , من أحب الناس إليك يا أمير المؤمنين ؟ قال : من كانت له عندي يد صالحة . قيل له , ثم من ؟ قال : من كانت لي عنده يد صالحة .
فلي عندك يد ولك عندي ألف يد ... فهاتي يدك وضعيها في يدي لنهاجر مثل السنونو نحمل معنا فقط ذكرياتنا الجميلة ؛ ونترك جروحنا لأولئك الذين طعنونا غيلة وغدرا , فإن الأرض لم تعد لنا بدار مقام .
9 / 01 / 2010
علي سليفي ELî SiLîVî