أول وآخر حب
"من الفنانة الأسبانية صانعة العرائس الشهيرة " كرمن يو فارد " إلى جارها " رامون "
عزيزي رامون :
لا ريب أنك ستدهش عندما تقرأ هذا الخطاب ,وسأخذ العجب منك كل مأخذ فأنت تعرفني ولكنك في الحق لم تعرفني أبدا , ولم تهتم بي لحظة واحدة , ولم تكلف نفسك ولو مرة عناء التحدث ألي ,أو التأمل في وجهي , أو الوقوف بجوار مقعدي المتحرك المخيف الذي يلقي الذعر في قلب كل من تحدثه نفسه بالتطلع ألي ..
نعم ..أنا من تكتب إليك اليوم هي جارتك . هي كرمن .. كرمن بعينها .. تلك الفتاة الشقية التاعسة المنكودة الحظ المصابة بالشلل النصفي , والتي عدا عليها القدر , وقست عليها الدنيا , وأجبرتها وهي بعد في مقتبل العمر وشرخ الشباب , على أن تقضي حياتها البائسة الموحشة في مقعد متحرك صغير ذو أربع عجلات ..
هو ذاك يا عزيزي .. أنا جارتك المشلولة , جارتك المنبوذة , جارتك التي لا أمل لها في الصحة , ولا أمل لها في القوة , ولا أمل لها في التمتع بأي فتنة من مفاتن هذا الكون الرائع البهيج , هي التي استجمعت اليوم مدخر صبرها , ومدخر عذابها و ومدخر عواطفها, وتجاسرت وكتبت إليك هذا الخطاب .
فلا تغضب يا رامون واسمع قصتها .! أسمع ولا تحاول الحفل بها.. أسمع ولا ترث لحالها . اسمع ولا تفكر في الاتصال بها ,أو العطف عليها , أو محاولة إنقاذها من شقائها .
إني فتاة ,عشت أعواما طويلة في ظل المرض , فالمرض احتواني , والمرض طوقني , والمرض أقام حاجزا مروعا بيني وبين الناس .. ليس لي غير عقل يفكر , وصدر يتنفس وقلب يخفق , وعيون مفتحة , ولهفة قلقة حائرة مذيبة , تحطم نفسي وجسمي أضاع ما يحطمه المرض الذي شاءت الأقدار الغاشمة أنت تبتليني به .
فالحياة تمر أمامي , وقدماي عاجزتان عن اللحاق بها . والناس يمرحون حولي وشبابي عاجز عن أدراك خطواتهم . والمسافات والأبعاد الشاسعة تناديني وأعضائي الراهنة المشلولة عاجزة كل العجز عن تحقيق أية استجابة أو تلبية أي نداء .
هكذا عشت في صحراء نفسي ,وفي بحر حياتي , أو في محيط أفكاري وعواطفي , ولا أرى غير ذاتي , ولا أفزع إلا عليها , ولا افرح إلا بها. كأني قد خلقت من طينة غير طينة البشر .. وكأني ما جئت إلى هذا العالم إلا لأعيش بمعزل عنه .. أود أن أندمج فيه فيهزني , وأود أن ألمسه فيزجرني ,وأود أن أداعبه بالنظر فينفر مني ساخرا بحيرتي , هازئا بأملي , شامتا ومقهقها في وجهي قهقهة وحشية مدوية هي حكم إعدام قاطع تصدره الطبيعة على شبابي وحياتي ..
فالموت اليوم هو صديقي ,والوحدة الدائمة هي نصيبي , وابتسامات الشفقة والرثاء هي كل ما جنيته حتى اليوم من حقل النفس الإنسانية ومن القلب البشري .
فلكي أجد منصرفا لعذابي , ومتنفسا لصدري أولعت بفن عجيب .. ومضيت اصنع عرائس من قماش بيضاء وزرقاء وحمراء امثل فيها الحب والأمل واليأس والهزيمة والعذاب واعهد بها إلى والدي الشيخ كي يبيعها في السوق.
ولقد أعجب الناس بعرائسي , وقالوا عني أني فنانة نابغة وأسرف في مدحي وإطرائي إسرافا حاولت أن أقنع به وأكتفي ,وأن أجعل منه غاية أملي وقبلة حياتي في هذه الدنيا ولكني لم أستطع .
أجل .. لم أستطع أن أحل العرائس محل الحقائق وأن أرضى بالوهم دون الواقع , وأن أعيش في ضباب الحلم على حساب كل ما هو منظور ومحسوس .. فأزداد ألمي , وأزداد شقائي وقربني الفن من الدنيا بدل من أن يقصيني عنها فشعرت بلوعة مرة وحسرة لا تطاق ..
وكانت نفسي تهفو إلى شيء أقوى من الفن , وأعمق من الحلم .. وأغزر من الخيال , وكنت لا أدري ما هو هذا الشيء الذي أصبو إليه حتى رأيتك يا رامون وأدركت أنك تسكن بجواري , وأحسست بومضات روحك تشع علي . فأتقد وجداني , واحتدمت عواطفي وأحببتك حبا جارفا وأنا لا أدري .
أحببتك دون أن أخاطبك ,ودون أن أشعر ودون أن أدع نظرة واحدة من نظراتي إليك تفضحني أمامك ,وتمزق القناع الكثيف الذي أسدلته عمدا على وجهي وعلى كل جارحة فيّ .
وكنت أنت تمر بي في غدواتك وروحاتك وتلقي علي نظرة آسفة وتحييني في أدب وفتور .وكنت أنا أعشق عينيك السوداويين وأعبد شعرك المموج ,وأترامى صريعة تحت هيكل حسنك ,وأتمنى على الله ألا يحرمنني من رؤيتك وأن يبقي لي نور عيني لأتمكن من سحر طلعتك ,وبهاء رجولتك ,وفيض العزة والجلال الذي يسكبه الصبا الناضر عليك !..
ولقد أسعدتني يا رامون وأنت لا تعلم !..جعلت مني أسعد مخلوقات الله طرا وأنت لا تدري !فطفقت أصنع العرائس تحت تأثير وحيض ,وأبدع وأفتن في غمرة ألهامك فشعرت بالنعمتين الخالدتين :نعمة الفن ,ونعمة الحب ..نعمة الخيال ,ونعمة الحقيقة ..نعمة السماء ونعمة الأرض !
الواقع أني ملكت الدنيا منذ أن عرفتك .. لم أعد أطمع في شيء ,أو أحزن على شيء ,وأنظر متلهفة متحرقة إلى شيء ..نسيت قدمي المشلولتين ,وعجزي الشائن عن الحركة وذلي النفسي الفظيع ,وبدأت أرى الحياة في حلة جديدة .وأحسست أني أتحرك ,وأني أتحمس ,وأني اختلج .وأني أعيش ألف مرة أكثر مما يعيش أوفر الناس صحة وأصلبهم قوة وأقدرهم على مواجهة السعادة ومجابهة النعيم .
وكل هذا يا رامون وأنت غافل عني ,نافر مني ,غير مكترث لي .
لم تكترث لي في حين أنك أنت الذي خلقتني !.. كل فكرة من كانت رجع صداك ,وكل جمال أبدعته كان مستمدا من علاك ,وكل عاطفة خاوتني كانت تتفجر من ينبوع حسنك ومن فيض بهاك .
ومع ذلك لم يخطر على بالي لحظة واحدة أن أكلمك أو أنبهك ,أو أشعرك ولو من طرف خفي أني أعبدك .. كان الصمت يغمر حياتي ,وكان صمتا مليئا بك ,وكنت أسعد النساء بصمتي ,أحرص على بصري ,وأجد فيه نعيما لا يمكن أن تشوبه شائبة الخيانة والغدر ,ولا يمكن أن يتطرق إليه أي خوف وأي قلق وأي دنس !..
وكنت قد آليت على نفسي ألا أتكلم أبدا .. فلماذا تكلمت اليوم إذا ,وما الذي أنطقني ,وما هي تلك القوة التي أطلقت لساني من عقاله ,ودفعتني بالرغم مني إلى طرح سر نفسي وجوهرة قلبي تحت قدميك !..
إن هذه القوة يا رامون هي أيضا قوة القدر ! القدر الذي يشاء اليوم أيضا أن يطعنني في شغاف قلبي ويسدد إلي سهمه الأخير ؟.. يجب .. يجب أن أرحل يا رامون .أن والدي سيغادر مدريد بعد عشرة أيام .وسينتقل إلى أشبيلية ليرأس الفرع الجديد الذي افتتحته الشركة التي يعمل بها !.. ويجب أن أطيعه !.. يجب أن أتبعه !.. وهل في وسعي إلا أن أطاطي الرأس صاغرة وأطيع ؟!..
القدر أقوى مني ,وأقوى من حبي وهو أبدا مسلط علي !.. منذ عشرة أيام فقط لن أراك يا حبيبي !.سأحرم منك سأمزق فؤادي وروحي وعقلي حسرة عليك !. فكيف كان يمكن أن أرحل دون أن أكاشفك بحبي ,وكيف كان يمكن أن أرحل دون أن أشعر ولو لمرة واحدة في حياتي بأنك هبطت إلى قرارة النفس ,واندمجت في مقدس قلبي وزوجي بالعاطفة والفكر والروح ؟. زوجي !.. يا لها من نعمة لن أسعد بها أبدا ولا بد أن تسعد بها امرأة غيري .
أجل .. لهذا كتبت إليك ! لهذا اجترأت واقتحمت حرمة حياتك !.. فافهمني جيدا واذكرني ! أنا أريد أن تكون سعيدا لا أستطيع أن أشعر أن حبي العظيم لك تألق وازدهر وآتي أبرك الثمرات ..فتزوج يا رامون وأنسني !. تزوج ,على أن تحب امرأتك من أجلي ,وكلما أحببت امرأتك أسعدتني وكلما أخلصت لأسرتك أرضيتني ,وكلما تفانيت في البذل والتضحية من أجل أولادك أحسست أنا بالفكر والروح أنك أصبحت تحبني !..
فأحمل قلبي بين يديك مشكاة تضيء أمامك فسحة الدنيا وتهديك سواء السبيل .وإياك أن تتألم بسببي ..إياك أن تعكر صفو حياتك بالتفكير في حضني !. سأعرف كيف أحتمل مصيري وسأعرف كيف أخنق لوعتي وسأعرف كيف أعيش سعيدة بوحدتي ,سعيدة بحسرتي سعيدة بشللي أما ما دمت على يقيني من أنك قد عملت بنصيحتي ,ونفذت وصيتي !. ولسوف تعمل ولاشك بهذا النصح الثمين الغالي لأن الطيبة متأصلة في دمك ,والنبل طبيعة فيك ,وحب الخير للخير شيمتك .فتزوج وكن وفيا ..تزوج وكن سعيدا .ومتى وصلتني أنباؤك ,وعلمت علم اليقين أنك سعيد بقرب امرأتك سكنت لوعتي ,وأطمأن قلبي ,وشعرت شعور وابلغه انك أحببتني أنا أيضا وتزوجتني .
فالوداع يا حبيبي واذكرني ..أذكرني وأحرص على الوحي النبيل الذي أريد أن يخلفه في قلبك صدق حبي ,هذا الحب الذي هو أول وآخر حب في حياة فتاة تعسة مشلولة قدستك وعبدتك وأنت لا تدري !.
الوداع
" كرمن "
وتزوج رامون وأعقب طفلا ذكرا وكان مثال الزوج المخلص الوفي ,ولكنه لم يوفق اختيار امرأته ,وقاسى الأمرين من حدة طبعها وغلظة أخلاقها ,وأوشك أن يطلقها .
ولكن كرمن التي كانت تتسقط أنباءه كتبت إليه مرة أخرى تثنيه عن عزمه ,وترده إلى رشده وتذكره بواجبه المقدس نحو ولده ,ونحو امرأته التي لابد له أن يصبر عليها ,ويكافح ما أستطاع لتبديل أخلاقها ,وتهذيب طباعها حرصا على هنائه وراحته ومستقبل أسرته .
نزل رامون على حكم صانعة العرائس ,ولم يطلق ولكنه لفرط عذابه أمسى فراغا في قلبه ,وحاجة ملحة إلى صداقة طاهرة بريئة تنقذه ..فشرع بدوره يكتب إلى الفتاة المشلولة خطابات ملؤها اللوعة والحسرة والكمد يفرج بها عن نفسه ويتلخص بين سطورها من عب همه ,ويصف فيها شقائه الزوجي ثائرا على الحظ الذي خان صديقته ,ونكل بها وحرمه قربها ,ووهبها النبوغ والغنى ولكنه ضن عليها بالقدرة على الزواج ,والقدرة على الحياة .
9/1/2010
علي سليفي