كول نار
Kurd Day Team
الأسطورة الأولى : اليقطينة
محمد خان في قصة اليقطينة
في كهف يطل من المشارف البعيدة من القرية كان راعي بقر يقيم فيه مع زوجه وقد عز عليهما الإنجاب والولد حتى شاء الله تعالى أن تحمل زوجه فإذا أصابها المخاض وضعت يقطينة بدلا ًمن الولد فيحملانها ويركنانها على الرف وكلما عاد الراعي من البرية وخلد إلى امرأته ندبا حظهما واستغرقا في هواجسهما وأحزانهما
وفي احد الليالي بينما كانا يتسامران إذا بالكهف يضج بصوت مفاجئ انبعث من اليقطينة .
- هيه يا أبي .. هلم إلي .. اسمع قولي .. فإذا بالراعي وزوجه يغلبهما فزع وذهول وهما يصيخان السمع فيتساءلان : ما هذا ؟ ما هذا يا رب ؟ لكن الصوت دوى ثانية وارجع النداء . ماذا ؟ ما الأمر ؟
- أريدك يا أبي أن تنطلق إلى الوالي وتطلب ابنته حليلة لي
- وكيف يا بني وابنة الوالي قد ذاع بالجمال صيتها حتى تواكب طالبوها في الزواج من كل مكان ووالدها يتأبى المال في مهرها ويكتفي بتنفيذ شروطه ومطالبه التي أعجزت الكثيرين مما أودى بهم إلى القمع والهلاك فقد أعد في مجلسه مقعدين احدهما من ذهب خصه بخاطبي ابنته وآخر من فضة اقتصر فيه على تحقيق مطالب ذوي الحاجات والمنافع والمال فمن استيأس من تنفيذ شروطه أوكله في غده إلى الجلاد لينال فيه العقوبة والإعدام وكيف بي يا بني أن أجرؤ وأنا راع فقير أتقوى في مقابلة الوالي واطلب منه مبتغاك إذ لا بد أن يستهين بي ويطردني بلا هوادة أو رحمة وأنا على يقين إني سأكون لا محالة في عداد الهالكين
- دعك يا أبي من هذا وتثبت ولا تأبه اذهب إليه ولا تخف ولا تجزع فإذا انبلج الصباح كان الراعي يمم نحو قصر الوالي بقلب مهيض حزين تخنقه العبرات وتكويه الحرقة والزفرات يتعثر في خطاه بين الإقدام والإحجام وهو لا يدري كيف صعد الأدراج وكيف ولج فناء القصر وكيف قبع على المقعد الذهبي وكيف أخذت تتقاذفه الصحوة والغفوة والمخاوف والهواجس وهو يحتسب إلى الله تعالى : لا حول ولا قوة إلا بالله . إن هذه اليقطينة نازلة في هلاكي
وبينما هو في تهويمه إذا بالوالي يفتح عينيه من رقاده فيفاجأ بالراعي جاثما ًعلى المقعد الذهبي
- هيه يا ولد ؟ أيها الراعي لابد انك تائه لقد ضللت مقعدك فإن كنت مفتقرا ً إلى المال زودتك به هيا تنح واجلس على المقعد الفضي
- لا يا سيدي لست تائها ًولا ضليلا ً وإنما جئتك خاطبا ً ابنتك لولدي يقولها متلعثما ً وبصوت متهدج وضعيف وقد تقواه اليأس والجزع
- ما دمت مصرا ًفلابد لي من أن اخفف عليك شروطي وانك راع مسكين تدفعني الشفقة والرحمة بك فإذا صحوت في غدك أريدك صباحا ًوقبل بزوغ الفجر في أربعين فارسا ًبحللهم ورماحهم وجيادهم الحمراء وقد حشدتها في فناء قصري فان أعجزك الطلب لابد لك أن تدرك المآل والنتيجة في الموت وإلا ما يكون لك ما تنشده غدا ً في حينه
- أجل يا سيدي سيكون لك ما تريد وقد تغشاه اليأس والحزن وهو يتمتم "اللعنة عليك أيتها اليقطينة إنك نذير شؤم وخراب "
لقد أوى في كهفه وجثا أمام زوجه وهو يتحرق حزنا ًوبكاء ً وقد أيقن أن طلب الوالي لغز يصعب حله ومعجزة تنوء بها حتى أفاعيل الخيال وما كاد يترامى صوته إلى اليقطينة حتى صاحت به : " رويدك يا أبي هون عليك اهدأ وتشجع فالخوف والضعف ليسا من صفة الرجال هيا يا أبي توجه إلى الصخرة الكبيرة التي تطل على وادينا القريب وأطلق فيها صوتك بالكلمات التالية " يا أحمد خان أخوك محمد خان يبلغك تحياته ويدعوك غدا ً قبل الفجر أن تقيم له في فناء قصر الوالي أربعين فارسا ً حمر اللباس حمر السلاح حمر الجياد ثم عد ولا تأبه واطمئن فإن غدا ً لناظره قريب"
لكن الخوف وشغل البال أزهقا النوم من عيني الراعي وبات ليله في هم وكدر يرقب فيها مصيره
أما الوالي فقد حزم أمره وأعد عدته واستدعى جلاديه وأعوانه وأوكل إليهم إعدام الراعي في باكورة النهار على مرأى من الملإ لأن شروطه معجزة يقينية يصعب إعدادها وتنفيذها لقد أذهلته وحاشيته المفاجأة حين شهد الأربعين فارسا ً ينتصبون في ساحة قصره بكامل عددهم وعدتهم في حين كان الراعي المسكين مذهولا ً تدور به الدنيا وهو لا يصدق ما يرى من عظمة المظهر حيث تنفرج أساريره ويؤوب مسرعاً إلى كهفه يحمل البشرى والفرح وهو يصيح " يا بني ها هم فرساننا قد حلوا وتجمعوا هناك في قصر الوالي
- هيا يا أبي عد إلى الوالي واطلب منه وفاء العهد والوعد وائتن بابنته حليلة وزوجة ولا يرهبنك منه السطوة والجبروت
وانطلق الراعي بكل حيوية وقوة إلى الوالي فإذا به يجده قد أعد راحلة ابنته ليسلمها إلى الراعي الذي أمسك عنان فرسها وها هو ذا ينطلق ليودعها كهفه وليوعز إلى زوجه أن تصبحه في قضاء ليلتها لدى أقربائها في القرية القريبة ولكي يدعا العروسين في لقائهما وهنائهما
وقبعت ابنة الوالي في هدأة الكهف وحيدة تغمر رأسها بين كفيها وتستسلم للأفكار والأوهام ترقب فيه قدرها ومصيرها بين رحابة القصر الزهي ووحشة الكهف الضني وما هي إلا هنيهة فإذا بالصمت ينفصم وإذا باليقطينة تهبط من على الرف تتدحرج على الأرضية فتنفلق عن شاب وسيم الطلعة كأنه مجمع للجمال فاختلج له قلبها وخامرها العشق من أول وهلة وكأنما هو مهوى لكل خافق في إسار حبه
- أيه أيتها الأميرة أنا محمد خان ابن ذلك الراعي الفقير ساكن هذا الكهف الوضيع وأنت ابنة الوالي ذي الطول والعظمة والسلطان فهل تجدين في ما ترضينه زوجا ً؟
- أجل .. أجل يا عزيزي محمد خان وكيف لا
- إذن ما عليك إلا أن يصفو بنا اللقاء والحب بأن تعدي لي فنجان قهوة شريطة أن لا تطفو أو أن تفور القهوة على لهب النار وتأني واحذري ألا يقع ذلك فقد يكون سبب جمعنا أو فرقتنا
وها هي الأميرة تنطلق وعوامل الشوق والبهجة تأسرها وهي لا تكاد تفارق صورة حبيبها لكنها في غفلة منها تبدل الفرح ترحا ًوالغبطة حزنا ًوفارقت القهوة وانقلبت الأنس وحشة وغاب عنها محمد خان ورانت عليها الكآبة والأوهام
في حين كان الراعي وزوجه يدلفان عائدين إلى كهفهما فإذا الأميرة كأنها في صحوة حلم وهي مذهولة تنتحب
- ماذا دهاك يا بنية ؟ وما يحزنك ويبكيك ؟
- لا شيء .. لا شيء إني سأولي أمري إلى الله تعالى وسأحتذي حذاء من حديد وأتوكأ علة منسأة حديدية كذلك ليكونا لي عونا ًفي البحث عن محمد خان في أركان الدنيا حتى يفل كل من الحذاء والمنسأة فأن حظيت به هنئت وعدت أو استحققت راضية بالموت والهلاك كما أخذت موثقا ًعلى نفسي أن احرم علي الرجال من بعد محمد خان وسيكون شغلي وهاجسي هو البحث عنه وسأدع أمري إلى الله
ها هي تدور الدنيا تبحث عن ضالتها ويفل حذائها ومنسأتها وتعود إلى أبيها الوالي تطلب منه أن يشيد لها قصرا ًمنيفا ًتركن إليه على مفترق من طريق القوافل ترقب فيه المارة وتؤويهم إليه لكي تستقصي منهم الدلائل والأخبار وقصص الناس والأسفار علها تقف على بريق من أمل أو خبر وها قد بني القصر وصار ديدنها تسور سطحه كل يوم وهي ترقب بمنظارها حركة المارة والمسافرين وتستمع لما به يتحدثون وظلت على هذا الحال لأكثر من ثماني سنوات حتى إذا كان غروب نهار إذا بشيخ هرم ضرير يقتاده غلام يافع وهما يتعثران في طريقهما بين صخور ووهاد في حين كان الظلام يدس أصابعه في عيون النهار فإذا هي تستوقفهما مناديه " هيه أيها العجوز ليس لليل من أمان ولا في القفار من صاحب هيا ادخلا قصري وكونا في ضيافتي الليلة فتنعما فيه دعة وأمانا ً وها هي تقدم لهما العشاء حتى إذا شبع الشيخ استلقى واسترخى على جنبه لينام وبدأ النعاس يدس في عينه لكن صاحبة القصر تبادر القول " أيها الشيخ الوقور لابد أنك في هذا العمر قد خبرت الحياة وشاهدت وعاينت صروفها وأحداثها وطرقت سمعك حوادثها وقصص وأخبار أنامها فهلا واسيت وحدتي وأخبرتني بما تسري عني الهموم والكربة والوحشة ؟
- يا أميرتي العزيزة ليس لدي ما ارويه أو أطلعك عليه واعذريني فقد خارت قواي من السفر والترحال غير أن الغلام تنطح وقاطع والده الشيخ وقال " اجل يا أميرة أنا سأحكي لك ما جرى معي قبل أمس في طريقنا إليك إذ ما زلت في حيرة وشك من عظمة ما رأيت " لكن الشيخ ما إن سمع مقالة ابنه حتى انتهره ووكزه بعقصة وهو يؤنبه " ويلك أنى لك رواية الحكايا والقصص يا ولد ؟"
لكن صاحبة القصر انتهرت الشيخ وقالت " دعه يتحدث بما شاهد وبما شاء الم تعلم القول (خذوا فألكم من أولادكم) هيا يا بني ادن مني واجلس بجانبي فأنا أصيخ لك بسمعي وبكل جوارحي وأنت أيها العجوز دعه على رسله يتكلم
التفت الغلام إلى والده وقال : " أتذكر يوم وردنا البحيرة في طريقنا؟ "
قال الشيخ : " أجل أيها الولد المغبون أليس اليوم الذي أوهمتني فيه أنك ما حركت ساكنا ًولا بعدت عني وأنك كنت بجانبي في حين تخليت عني وتركتني ضليلا ً ابحث عنك في تلك القفار حتى ضقت ذرعا ًبالبحث عنك ؟ "
- أجل يا أبي لقد كان يوما ًمشهودا ًوهو يلتفت إلى صاحبة القصر " يا أميرتي العزيزة ما أن وصلت وأبي بركة الماء حتى غلب عليه النوم وهو يستأمنني على مراقبته من الوحوش والهوام وبينما كنت أرقبه إذ بجلبة تنطلق من خلف الصخرة الكبيرة فتذهلني ويتملكني الخوف والوحشة فإذا هو زورق تتقاذفه الأمواج بين غوص وعوم في البحيرة لكن فضولي دفعني لأقذف بنفسي فيه كي أقف على كنهه وسره فإذا بي ضمن قصر منيف تبدو على ساكنيه الأبهة والجلال ويتوزع فناءه أربعون سريرا ًوما أن أرخى الليل سدوله إذا بي أرى أربعين حمامة تحوم في سماء القصر وتحط فيه وتخلع عنها ثوب ريشها فتنبلج عن أربعين شابا ًبهيي الطلعة والجمال ولم أجد إلا التخفي أتحصن به تحت سرير احدهم الذي كان صامتا ً هاجسا ً نحيلا ً وكأن هموم الدنيا غشيته بكلكلها واستلقى على سريره ثم احتضن طنبوره
يسلو به حزنه وسقمه وشعرت بما نال منه العشق والهيام حتى أذهله
وها هي أمهم المربية تقدم لكل منهم عشاءه فيتناوله إلا ذلك الوله الحزين فقد مج الطعام وطلب من مربيته أن تودعه تحت سريره ريثما تنفرج عنه كروبه وتنطلق من عقالها أساريره فيأكل لكنها وقفت عليه تؤنبه وتعنفه " حسبك يا بني هذه السنة الثامنة تمر وأنت رهين الذكريات وأحزانها أما آن لك أن تنسى أو تتناسى تلك المرأة الجافية ؟ ألم يخلق الله تعالى ما يماثلها بين الأنام ؟ عد إلى رشدك وصوابك يا محمد خان وما كادت أميرة القصر تسمع بأسم محمد خان حتى عاجلته الحديث وهومت بها الأفكار وأدركت وصولها إلى ضالتها المنشودة
وقالت له في حدة وماذا حدث يا بني ؟ قال " وما أن احتكم الصباح إلا والأربعون شابا ً طاروا حمائما ً يسمكن في الجو في حين انتهبتني الأفكار وهومت في رأسي الأوهام لأقف على حال أبي وبت من فوري أراقب الزورق حتى إذا استقام قريبا ًمني ألقيت بنفسي فيه وإذا بي اخرج من عباب الماء لأرى أبي يبحث عني مناديا ً ووقفت بين يديه وهو يوبخني ويعنفني أين كنت يا بني ؟ أما خشيت الله وأنت تتسكع بعيدا ً عني
وما كاد الطفل ينهي حديثه إلا وأسرعت صاحبة القصر إلى الشيخ تقول : " إليك هذا القصر بما فيه هدية مزجاة مقابل أن يرافقني ولدك ويرشدني إلى المكان ويوقفني على الزورق حتى إذا ما اقترب منها كانت الأميرة ملقاة في وسطه وها هي تلج القصر وتركن تحت السرير محمد خان وكلها شوق ولهفة وحنان وأمل اللقاء وفي خاطرها ركام من عبارات الحب وها هي الحمائم تحوم في مجال القصر وتسترخي هابطة في ساحته وتخلع عنها ريشها فإذا هي تلمح من بينهم محمد خان وقد أفضى إلى سريره يترنح تحت مثقلات همومه وأحزانه وها قد تأبط طنبوره يناغي به لواعجه وأسقامه وها قد جاءت المربية الأم تحمل للأربعين عشاءهم إلا محمد خان فقد أشار إليها أن توليه جانبا ًحتى تهدأ خواطره وهي تواسيه في قولها " حسبك يا ولدي أما آن لك أن تؤوب إلى عقلك ورشدك ؟ وتنطلق من عقال أحزانك لكنه تصبر ولم يقو على الرد والجواب حتى إذا استغرق كل في نومه وعم الهدوء المكان كانت الأميرة تمد إليه يد الحنان تتلمس يدي محمد خان وتهمس له " ها قد وصلتك بعد ثماني سنوات من الفرقة والتشرد أمضيتها بحثا ً عنك والتقت العيون بالعيون وتعانقت الروح بالروح وأخذت الشمس تسترسل في أشعتها إيذانا ً بانطلاق الحمائم لكن محمد خان تظاهر بالتقاعس والمرض لينفرد بخطيبته وليأنس بها بعد طول غياب وليجد مفرا ً يلجأ إليه خشية من غضبة أمه المربية وحسبانا ًلما تكيد به من شرها وطلاسمها
- هيا يا عزيزتي ننأى عن المكان لنلقى في غيره الدعة والأمان فقد يفتضح أمرنا ونقع في شباك أمنا المربية التي نغشى تعاويذها وضرها
- وما أن انطلقا من ردهة المكان إلا والديك السحري ينذر ما حوله بالخطر ويطرق مسامع ألام المربية وأولادها فينقلبوا عائدين فلم يلووا على محمد خان ولكن الأم تفرد مرآتها السحرية فترصده مع خطيبته في طريق الفرار فتثور وتغضب وتجد في سيرها تلاحقهما ولكن محمد خان يرمقها عن كثب فيقرأ تعويذه أسماء الله الحسنى التي يحتمي بها فينقلب بها إلى راع والخطيبة إلى عنزة ترعى العشب وها هي الأم المربية ترنو إليه ملوحة بيدها
- هيه أيها الراعي هل رأيت إنسانا ًيعبر الطريق من هنا ؟
- لا ولكن تابعي مسيرك
حتى إذا غربت عنهما خامره الشك في أن أمه الساحرة قد عرفته فتوجس من غدرها فأوى إلى مطحنة قديمة تمثل فيها بطحان ومثل خطيبته بزبون لكن الأم المربية ما لبثت أن عادت إليه تقول : " ويلك يا بني هل ظننت أنه خفي علي أمرك ومظهرك وأن حيلتك قد انطلت علي ؟ أرني أتطلع وانظر إلى خطيبتك فإن فاقت حسنا وجمالا وفتنة وكمالا وافقت وباركت زواجكما وإلا قرأت عليكما تعويذة مسختكما ترابا ًورميما
وهنا تظهر الأميرة في روعتها وجمالها الأخاذ وترتمي عليها في محبة وعناق فتبدي عندها لهما القبول والرضا والفرح وهي تبارك لهما زواجهما وتدعو لهما بالخير والسعادة .
محمد خان في قصة اليقطينة
في كهف يطل من المشارف البعيدة من القرية كان راعي بقر يقيم فيه مع زوجه وقد عز عليهما الإنجاب والولد حتى شاء الله تعالى أن تحمل زوجه فإذا أصابها المخاض وضعت يقطينة بدلا ًمن الولد فيحملانها ويركنانها على الرف وكلما عاد الراعي من البرية وخلد إلى امرأته ندبا حظهما واستغرقا في هواجسهما وأحزانهما
وفي احد الليالي بينما كانا يتسامران إذا بالكهف يضج بصوت مفاجئ انبعث من اليقطينة .
- هيه يا أبي .. هلم إلي .. اسمع قولي .. فإذا بالراعي وزوجه يغلبهما فزع وذهول وهما يصيخان السمع فيتساءلان : ما هذا ؟ ما هذا يا رب ؟ لكن الصوت دوى ثانية وارجع النداء . ماذا ؟ ما الأمر ؟
- أريدك يا أبي أن تنطلق إلى الوالي وتطلب ابنته حليلة لي
- وكيف يا بني وابنة الوالي قد ذاع بالجمال صيتها حتى تواكب طالبوها في الزواج من كل مكان ووالدها يتأبى المال في مهرها ويكتفي بتنفيذ شروطه ومطالبه التي أعجزت الكثيرين مما أودى بهم إلى القمع والهلاك فقد أعد في مجلسه مقعدين احدهما من ذهب خصه بخاطبي ابنته وآخر من فضة اقتصر فيه على تحقيق مطالب ذوي الحاجات والمنافع والمال فمن استيأس من تنفيذ شروطه أوكله في غده إلى الجلاد لينال فيه العقوبة والإعدام وكيف بي يا بني أن أجرؤ وأنا راع فقير أتقوى في مقابلة الوالي واطلب منه مبتغاك إذ لا بد أن يستهين بي ويطردني بلا هوادة أو رحمة وأنا على يقين إني سأكون لا محالة في عداد الهالكين
- دعك يا أبي من هذا وتثبت ولا تأبه اذهب إليه ولا تخف ولا تجزع فإذا انبلج الصباح كان الراعي يمم نحو قصر الوالي بقلب مهيض حزين تخنقه العبرات وتكويه الحرقة والزفرات يتعثر في خطاه بين الإقدام والإحجام وهو لا يدري كيف صعد الأدراج وكيف ولج فناء القصر وكيف قبع على المقعد الذهبي وكيف أخذت تتقاذفه الصحوة والغفوة والمخاوف والهواجس وهو يحتسب إلى الله تعالى : لا حول ولا قوة إلا بالله . إن هذه اليقطينة نازلة في هلاكي
وبينما هو في تهويمه إذا بالوالي يفتح عينيه من رقاده فيفاجأ بالراعي جاثما ًعلى المقعد الذهبي
- هيه يا ولد ؟ أيها الراعي لابد انك تائه لقد ضللت مقعدك فإن كنت مفتقرا ً إلى المال زودتك به هيا تنح واجلس على المقعد الفضي
- لا يا سيدي لست تائها ًولا ضليلا ً وإنما جئتك خاطبا ً ابنتك لولدي يقولها متلعثما ً وبصوت متهدج وضعيف وقد تقواه اليأس والجزع
- ما دمت مصرا ًفلابد لي من أن اخفف عليك شروطي وانك راع مسكين تدفعني الشفقة والرحمة بك فإذا صحوت في غدك أريدك صباحا ًوقبل بزوغ الفجر في أربعين فارسا ًبحللهم ورماحهم وجيادهم الحمراء وقد حشدتها في فناء قصري فان أعجزك الطلب لابد لك أن تدرك المآل والنتيجة في الموت وإلا ما يكون لك ما تنشده غدا ً في حينه
- أجل يا سيدي سيكون لك ما تريد وقد تغشاه اليأس والحزن وهو يتمتم "اللعنة عليك أيتها اليقطينة إنك نذير شؤم وخراب "
لقد أوى في كهفه وجثا أمام زوجه وهو يتحرق حزنا ًوبكاء ً وقد أيقن أن طلب الوالي لغز يصعب حله ومعجزة تنوء بها حتى أفاعيل الخيال وما كاد يترامى صوته إلى اليقطينة حتى صاحت به : " رويدك يا أبي هون عليك اهدأ وتشجع فالخوف والضعف ليسا من صفة الرجال هيا يا أبي توجه إلى الصخرة الكبيرة التي تطل على وادينا القريب وأطلق فيها صوتك بالكلمات التالية " يا أحمد خان أخوك محمد خان يبلغك تحياته ويدعوك غدا ً قبل الفجر أن تقيم له في فناء قصر الوالي أربعين فارسا ً حمر اللباس حمر السلاح حمر الجياد ثم عد ولا تأبه واطمئن فإن غدا ً لناظره قريب"
لكن الخوف وشغل البال أزهقا النوم من عيني الراعي وبات ليله في هم وكدر يرقب فيها مصيره
أما الوالي فقد حزم أمره وأعد عدته واستدعى جلاديه وأعوانه وأوكل إليهم إعدام الراعي في باكورة النهار على مرأى من الملإ لأن شروطه معجزة يقينية يصعب إعدادها وتنفيذها لقد أذهلته وحاشيته المفاجأة حين شهد الأربعين فارسا ً ينتصبون في ساحة قصره بكامل عددهم وعدتهم في حين كان الراعي المسكين مذهولا ً تدور به الدنيا وهو لا يصدق ما يرى من عظمة المظهر حيث تنفرج أساريره ويؤوب مسرعاً إلى كهفه يحمل البشرى والفرح وهو يصيح " يا بني ها هم فرساننا قد حلوا وتجمعوا هناك في قصر الوالي
- هيا يا أبي عد إلى الوالي واطلب منه وفاء العهد والوعد وائتن بابنته حليلة وزوجة ولا يرهبنك منه السطوة والجبروت
وانطلق الراعي بكل حيوية وقوة إلى الوالي فإذا به يجده قد أعد راحلة ابنته ليسلمها إلى الراعي الذي أمسك عنان فرسها وها هو ذا ينطلق ليودعها كهفه وليوعز إلى زوجه أن تصبحه في قضاء ليلتها لدى أقربائها في القرية القريبة ولكي يدعا العروسين في لقائهما وهنائهما
وقبعت ابنة الوالي في هدأة الكهف وحيدة تغمر رأسها بين كفيها وتستسلم للأفكار والأوهام ترقب فيه قدرها ومصيرها بين رحابة القصر الزهي ووحشة الكهف الضني وما هي إلا هنيهة فإذا بالصمت ينفصم وإذا باليقطينة تهبط من على الرف تتدحرج على الأرضية فتنفلق عن شاب وسيم الطلعة كأنه مجمع للجمال فاختلج له قلبها وخامرها العشق من أول وهلة وكأنما هو مهوى لكل خافق في إسار حبه
- أيه أيتها الأميرة أنا محمد خان ابن ذلك الراعي الفقير ساكن هذا الكهف الوضيع وأنت ابنة الوالي ذي الطول والعظمة والسلطان فهل تجدين في ما ترضينه زوجا ً؟
- أجل .. أجل يا عزيزي محمد خان وكيف لا
- إذن ما عليك إلا أن يصفو بنا اللقاء والحب بأن تعدي لي فنجان قهوة شريطة أن لا تطفو أو أن تفور القهوة على لهب النار وتأني واحذري ألا يقع ذلك فقد يكون سبب جمعنا أو فرقتنا
وها هي الأميرة تنطلق وعوامل الشوق والبهجة تأسرها وهي لا تكاد تفارق صورة حبيبها لكنها في غفلة منها تبدل الفرح ترحا ًوالغبطة حزنا ًوفارقت القهوة وانقلبت الأنس وحشة وغاب عنها محمد خان ورانت عليها الكآبة والأوهام
في حين كان الراعي وزوجه يدلفان عائدين إلى كهفهما فإذا الأميرة كأنها في صحوة حلم وهي مذهولة تنتحب
- ماذا دهاك يا بنية ؟ وما يحزنك ويبكيك ؟
- لا شيء .. لا شيء إني سأولي أمري إلى الله تعالى وسأحتذي حذاء من حديد وأتوكأ علة منسأة حديدية كذلك ليكونا لي عونا ًفي البحث عن محمد خان في أركان الدنيا حتى يفل كل من الحذاء والمنسأة فأن حظيت به هنئت وعدت أو استحققت راضية بالموت والهلاك كما أخذت موثقا ًعلى نفسي أن احرم علي الرجال من بعد محمد خان وسيكون شغلي وهاجسي هو البحث عنه وسأدع أمري إلى الله
ها هي تدور الدنيا تبحث عن ضالتها ويفل حذائها ومنسأتها وتعود إلى أبيها الوالي تطلب منه أن يشيد لها قصرا ًمنيفا ًتركن إليه على مفترق من طريق القوافل ترقب فيه المارة وتؤويهم إليه لكي تستقصي منهم الدلائل والأخبار وقصص الناس والأسفار علها تقف على بريق من أمل أو خبر وها قد بني القصر وصار ديدنها تسور سطحه كل يوم وهي ترقب بمنظارها حركة المارة والمسافرين وتستمع لما به يتحدثون وظلت على هذا الحال لأكثر من ثماني سنوات حتى إذا كان غروب نهار إذا بشيخ هرم ضرير يقتاده غلام يافع وهما يتعثران في طريقهما بين صخور ووهاد في حين كان الظلام يدس أصابعه في عيون النهار فإذا هي تستوقفهما مناديه " هيه أيها العجوز ليس لليل من أمان ولا في القفار من صاحب هيا ادخلا قصري وكونا في ضيافتي الليلة فتنعما فيه دعة وأمانا ً وها هي تقدم لهما العشاء حتى إذا شبع الشيخ استلقى واسترخى على جنبه لينام وبدأ النعاس يدس في عينه لكن صاحبة القصر تبادر القول " أيها الشيخ الوقور لابد أنك في هذا العمر قد خبرت الحياة وشاهدت وعاينت صروفها وأحداثها وطرقت سمعك حوادثها وقصص وأخبار أنامها فهلا واسيت وحدتي وأخبرتني بما تسري عني الهموم والكربة والوحشة ؟
- يا أميرتي العزيزة ليس لدي ما ارويه أو أطلعك عليه واعذريني فقد خارت قواي من السفر والترحال غير أن الغلام تنطح وقاطع والده الشيخ وقال " اجل يا أميرة أنا سأحكي لك ما جرى معي قبل أمس في طريقنا إليك إذ ما زلت في حيرة وشك من عظمة ما رأيت " لكن الشيخ ما إن سمع مقالة ابنه حتى انتهره ووكزه بعقصة وهو يؤنبه " ويلك أنى لك رواية الحكايا والقصص يا ولد ؟"
لكن صاحبة القصر انتهرت الشيخ وقالت " دعه يتحدث بما شاهد وبما شاء الم تعلم القول (خذوا فألكم من أولادكم) هيا يا بني ادن مني واجلس بجانبي فأنا أصيخ لك بسمعي وبكل جوارحي وأنت أيها العجوز دعه على رسله يتكلم
التفت الغلام إلى والده وقال : " أتذكر يوم وردنا البحيرة في طريقنا؟ "
قال الشيخ : " أجل أيها الولد المغبون أليس اليوم الذي أوهمتني فيه أنك ما حركت ساكنا ًولا بعدت عني وأنك كنت بجانبي في حين تخليت عني وتركتني ضليلا ً ابحث عنك في تلك القفار حتى ضقت ذرعا ًبالبحث عنك ؟ "
- أجل يا أبي لقد كان يوما ًمشهودا ًوهو يلتفت إلى صاحبة القصر " يا أميرتي العزيزة ما أن وصلت وأبي بركة الماء حتى غلب عليه النوم وهو يستأمنني على مراقبته من الوحوش والهوام وبينما كنت أرقبه إذ بجلبة تنطلق من خلف الصخرة الكبيرة فتذهلني ويتملكني الخوف والوحشة فإذا هو زورق تتقاذفه الأمواج بين غوص وعوم في البحيرة لكن فضولي دفعني لأقذف بنفسي فيه كي أقف على كنهه وسره فإذا بي ضمن قصر منيف تبدو على ساكنيه الأبهة والجلال ويتوزع فناءه أربعون سريرا ًوما أن أرخى الليل سدوله إذا بي أرى أربعين حمامة تحوم في سماء القصر وتحط فيه وتخلع عنها ثوب ريشها فتنبلج عن أربعين شابا ًبهيي الطلعة والجمال ولم أجد إلا التخفي أتحصن به تحت سرير احدهم الذي كان صامتا ً هاجسا ً نحيلا ً وكأن هموم الدنيا غشيته بكلكلها واستلقى على سريره ثم احتضن طنبوره
يسلو به حزنه وسقمه وشعرت بما نال منه العشق والهيام حتى أذهله
وها هي أمهم المربية تقدم لكل منهم عشاءه فيتناوله إلا ذلك الوله الحزين فقد مج الطعام وطلب من مربيته أن تودعه تحت سريره ريثما تنفرج عنه كروبه وتنطلق من عقالها أساريره فيأكل لكنها وقفت عليه تؤنبه وتعنفه " حسبك يا بني هذه السنة الثامنة تمر وأنت رهين الذكريات وأحزانها أما آن لك أن تنسى أو تتناسى تلك المرأة الجافية ؟ ألم يخلق الله تعالى ما يماثلها بين الأنام ؟ عد إلى رشدك وصوابك يا محمد خان وما كادت أميرة القصر تسمع بأسم محمد خان حتى عاجلته الحديث وهومت بها الأفكار وأدركت وصولها إلى ضالتها المنشودة
وقالت له في حدة وماذا حدث يا بني ؟ قال " وما أن احتكم الصباح إلا والأربعون شابا ً طاروا حمائما ً يسمكن في الجو في حين انتهبتني الأفكار وهومت في رأسي الأوهام لأقف على حال أبي وبت من فوري أراقب الزورق حتى إذا استقام قريبا ًمني ألقيت بنفسي فيه وإذا بي اخرج من عباب الماء لأرى أبي يبحث عني مناديا ً ووقفت بين يديه وهو يوبخني ويعنفني أين كنت يا بني ؟ أما خشيت الله وأنت تتسكع بعيدا ً عني
وما كاد الطفل ينهي حديثه إلا وأسرعت صاحبة القصر إلى الشيخ تقول : " إليك هذا القصر بما فيه هدية مزجاة مقابل أن يرافقني ولدك ويرشدني إلى المكان ويوقفني على الزورق حتى إذا ما اقترب منها كانت الأميرة ملقاة في وسطه وها هي تلج القصر وتركن تحت السرير محمد خان وكلها شوق ولهفة وحنان وأمل اللقاء وفي خاطرها ركام من عبارات الحب وها هي الحمائم تحوم في مجال القصر وتسترخي هابطة في ساحته وتخلع عنها ريشها فإذا هي تلمح من بينهم محمد خان وقد أفضى إلى سريره يترنح تحت مثقلات همومه وأحزانه وها قد تأبط طنبوره يناغي به لواعجه وأسقامه وها قد جاءت المربية الأم تحمل للأربعين عشاءهم إلا محمد خان فقد أشار إليها أن توليه جانبا ًحتى تهدأ خواطره وهي تواسيه في قولها " حسبك يا ولدي أما آن لك أن تؤوب إلى عقلك ورشدك ؟ وتنطلق من عقال أحزانك لكنه تصبر ولم يقو على الرد والجواب حتى إذا استغرق كل في نومه وعم الهدوء المكان كانت الأميرة تمد إليه يد الحنان تتلمس يدي محمد خان وتهمس له " ها قد وصلتك بعد ثماني سنوات من الفرقة والتشرد أمضيتها بحثا ً عنك والتقت العيون بالعيون وتعانقت الروح بالروح وأخذت الشمس تسترسل في أشعتها إيذانا ً بانطلاق الحمائم لكن محمد خان تظاهر بالتقاعس والمرض لينفرد بخطيبته وليأنس بها بعد طول غياب وليجد مفرا ً يلجأ إليه خشية من غضبة أمه المربية وحسبانا ًلما تكيد به من شرها وطلاسمها
- هيا يا عزيزتي ننأى عن المكان لنلقى في غيره الدعة والأمان فقد يفتضح أمرنا ونقع في شباك أمنا المربية التي نغشى تعاويذها وضرها
- وما أن انطلقا من ردهة المكان إلا والديك السحري ينذر ما حوله بالخطر ويطرق مسامع ألام المربية وأولادها فينقلبوا عائدين فلم يلووا على محمد خان ولكن الأم تفرد مرآتها السحرية فترصده مع خطيبته في طريق الفرار فتثور وتغضب وتجد في سيرها تلاحقهما ولكن محمد خان يرمقها عن كثب فيقرأ تعويذه أسماء الله الحسنى التي يحتمي بها فينقلب بها إلى راع والخطيبة إلى عنزة ترعى العشب وها هي الأم المربية ترنو إليه ملوحة بيدها
- هيه أيها الراعي هل رأيت إنسانا ًيعبر الطريق من هنا ؟
- لا ولكن تابعي مسيرك
حتى إذا غربت عنهما خامره الشك في أن أمه الساحرة قد عرفته فتوجس من غدرها فأوى إلى مطحنة قديمة تمثل فيها بطحان ومثل خطيبته بزبون لكن الأم المربية ما لبثت أن عادت إليه تقول : " ويلك يا بني هل ظننت أنه خفي علي أمرك ومظهرك وأن حيلتك قد انطلت علي ؟ أرني أتطلع وانظر إلى خطيبتك فإن فاقت حسنا وجمالا وفتنة وكمالا وافقت وباركت زواجكما وإلا قرأت عليكما تعويذة مسختكما ترابا ًورميما
وهنا تظهر الأميرة في روعتها وجمالها الأخاذ وترتمي عليها في محبة وعناق فتبدي عندها لهما القبول والرضا والفرح وهي تبارك لهما زواجهما وتدعو لهما بالخير والسعادة .