جوان
مراقب و شيخ المراقبين
عذراء القبور
الجزء الثاني والأخير
لقراءة الجزء الأول .. عذراء القبور ... الجزء الأول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
{ لم أعد أحتمل المزيد من المفاجآت ، على الأقل لهذا اليوم ، هل كبرت على
مواقف مخيفة كهذه ..اذا سمعت إجابة شافية ، سأعود الى مكتبي لأمزق كل
قصص الجريمة والرعب التي كتبتها ..فأي رعب أكثر مما أنا فيه ؟ ..حتى لو
كنت أحلم ، فهو أسوأ كابوس داهمني في حياتي }
- يا أبا يوسف ، يا أم يوسف .. هل تظنون أني خرفت حتى أحكي لكم قصة عن
فتاة توفيت منذ تسع سنوات ؟ أقول لكم ، غطيتها بمعطفي الأسود ..وكانت
عارية ..عفواً ، أقصد لم يكن يسترها سوى رداء أبيض أشبه ب..استغفر الله ..
بالكفن ، و انتـشلتها من على الطريق من مكان ليس فيه سوى مقبرة الإيمان ..أعتقد
أنكم تعرفونها ..
جحظت عينا أبو يوسف قليلا ..ثم عاد وجهه إلى اتزانه السابق ..وفتح فمه ببطأ
-محاولاً شرح شيء وفهم أشياء أخرى - ..
- أتقول : مقبرة الإيمان ، نعم ابنتي مدفونة هناك ..هذا صحيح ، ولكن متى كان
الأموات يركبون السيارات يا دكتور .. بالله عليك ، اعذرني فأنا
لا أشك في روايتك ، ولكن نحن أيضا لسنا مجانين حتى نصدق بأن ابنتنا
المتوفاة منذ تسع سنين ، أتت ليلة أمس الى البيت ..متى ؟ وكيف ؟
- هلاّ اريتني قبر المرحومة ابنتكم ؟ نطقها المحامي برتابة كلمة كلمة و هو يصر
على اسنانه و كأنه انسان آلي ..
- حسنا ، اود فعل شيئ من اجلك منذ قدومك ..سأصحبك الى المدفن الآن و أريك
قبرها .. أما معطفك الاسود . فلا أظنه يهمك معرفة ما آل إليه مصيره قبل أن
نجد شيئا ينقذنا من حيرتنا الآن .. يبدو أنني اشد رغبة منك الآن في رؤية قبر
ابنتي للوصول إلى نهاية لهذه القصة التي لا يصدقها عقل ..
كانت أم يوسف وأثناء حديث الرجلين اشبه بأحد التماثيل الثلجية التي كانت
تصنعها ابنتها حنان في طفولتها أيام الثلج --صلبٌ كفاية لأن يصمد قليلا ، لكنه
مهددٌ بالإنهيار في أي لحظة --
{ آه ...أما آن الأوان لهذه الذكرى ان تندثر ، ولهذا الوجع أن يستكين؟ ..قلبي
احترق حزنا عليكِ يا حبيبتي ، وما ينبض في جسدي المنهك هو رماده لا اكثر ،
لقد كبرتُ عشرين عاما في يوم واحد ..
يومٌ لم أشهد سوادا أكثر من منه ، تسع سنين في تسعين سنة , عاهدت نفسي
أن لا أعيش لغيرك وأنت حية ، فلمن أعيش بعد موتك؟ لم يكن أحد من زوار
المدفن يخرج منه قبل أن يمر على قبرك ..كانوا يعلمون كم كنت تحبين الأطفال
والخير والثلج .. وكانوا يشعرون بأن الملائكة تجتمع كل يوم فوق بيتك الصغير
في ذلك المدفن ..فأطلقوا عليك اسم عذراء القبور ، فقد كنت أصغر المتوفيات
سنا ... كيف خطر لذلك السائق ا لمتهور ان يدهس تلك الوردة ذات الستة عشر ربيعا }
ـــ كانت حنان تعبر الشارع ..الى جمعية اليتامى في الجانب الآخر .. لتضع ما
تملكه من ثياب ، والعاب ومصروفها من والديها على طاولة مديرة الجمعية ،
بعد أن تقطع مسافة نصف ساعة مشيا على الأقدام ..لم تكن قبل ذلك تضطر إلى
قطع هذه المسافة ، لولا أن انتقل مقر الجمعية ، من مقابل مدرستها تماما إلى
منطقة بعيدة ، خافت حنان وقتها من أنها لن تستطيع بعد الآن زيارة الجمعية
للتبرع واللعب مع الأطفال اليتامى ولو لساعات كل أسبوع .. سمعت حنان
يومها من معلماتها بأن صاحب الأرض التي بنيت عليها الجمعية رفع دعوى
على الجمعية لإسترداد الأرض بحجة أن الأرض مملوكة لجده ..ولأنه صاحب
نفوذ في دوائر الحكومة ولدى السلطة القضائية ، ربح الدعوى وهدم الجمعية
ليبني عليها مكاتب تجارية .. واضطرت الجمعية إلى استئجار مبنى قديم في
منطقة بعيدة بسبب قلة مواردها المالية ... كم كرهت حنان يومها كل أصحاب
الأراضي وكل المحاكم وكل القضاة وكل شيئ ...حتى البراءة أحيانا تتعلم الكره
وحب الإنتقام ـــ ...
وصل الرجلان إلى المدفن ، كانت الغيوم السوداء الكثيفة قد حولت هذا الصباح الجنائزي
إلى لوحة مخيفة من الليل الداكن .. وكانت شواهد القبور تنطق بالحقيقة الوحيدة في
حياتنا ..
ـــ كم أنت قريب أيها الموت رغم أننا لا نراك ..أو على الأغلب لا نريد ان نراك ـــ .
كان الرجلان صامتين ، والمحامي يحاول - استعدادا لأي مفاجأة محتملة - أن يبدو صلبا
عنيدا ، على الأقل أمام أبو يوسف .
ــ أنت تكتب رواياتٍ تنشر الرعب بين القراء ، فهل ستسمح لنفسك بأن تبدو مذعوراً أمام
احد قرائك ؟ ـــ
ما إن اقترب الإثنان من قبر حنان ، وقبل أن يتمكن أبو يوسف من رفع يديه لقراءة الفاتحة
،حتى انهمر سيل المفاجآت كصاعقة مباغتة ..
كانت المفاجأة الأولى هي الكفن الأبيض - الرمادي - كان مرميا على القبر وملفوفا كأنه
يغطي شيئا تحته
ـــ الم تكن تكفيك هذه المفاجأة أيها المحامي الشجاع ؟ حسنا ، اليك الثانية :
رفع الأستاذ خليل الكفن المهترء ، هاهو المعطف الأسود ، مرتب ومصفوف على جرائد
..لا إنهما جريدتين فقط ..
ـــ كم سيحتمل قلبك المسن من مفاجآت أيها المحامي العتيد ..ربما إن إجتاز قلبك
الحديدي المفاجأة التالية ، سيصبح المجهول القادم أسهل وطأة ً مما مضى على دقاته
المتسارعة
ـــكانت الجريدة الأولى صفراء اللون ، ومن إصدار قديم ،اصدار بتاريخ سابق لهذا اليوم
بتسع سنوات ..على الصفحة الأولى ، من الأسفل مربع متوسط الحجم .. إنه نعي وفاة
حنان إثر حادث دهس ٍ مفجع، ولأن الفتاة كانت محبوبة لدى جمعيات البر والإحسان ،
فقد كان النعي باسم جمعية رعاية الأطفال المصابين بالسرطان..
ـــ هاهم الملائكة الصغار يزفون حبيبتهم العذراء في أجمل عرس ٍ للموت كان عليك أن
تراه أيها الكاتب المغرور .. ترنح الأستاذ خليل قليلا ، وشعر بأن قواه بدأت تخور
ـــ لملم شجاعتك أيها الفارس الصنديد .. لم يبق سوى مفاجأة أخيرة وصغيرة فلا تسمح
لها بأن تكون القاضية ـــ .
تناول الاستاذ خليل الجريدة بيدين ترتعشان ..كانت الجريدة مفتوحة على الصفحة الرابعة
، أعاده الخبر الى عشر سنين خلت ،وأطبق على عينيه كالمطرقة ، لم تعد عيناه
تشاهدان بوضوح ، لكنه اضطر إلى قراءة الخبر ليقنع نفسه بأنه مازال على قيد الحياة ..
*صدور الحكم النهائي بالدعوى المقامة من المحامي خليل القوادري ، على أحد
الجمعيات الخيرية، لصالح المدعي ، بعد أن كان المحامي قد ادعى بأن الأرض أساسا
مملوكة لجده سليمان باشا القوادري *...
تراخت ساقا الأستاذ خليل .. وبعينين نصف مغمضتين رأى نفقا بعيدا مظلما ، ونورا
يسطع في آخره وسمع صوتا عاد بذاكرته الى يوم امس ..آخر عبارة سمعها من حنان
قبل أن تغادر سيارته ..كانت تقف في آخر النفق ..يا آلهي ! كيف أمكنني أن اسمعها
وهي أبعد مما يمكن لعينيّ أن ترى .. إنني أسمعها بوضوح ..(إلى اللقاءأيها الرجل
الطيب ) وكان آخرما رأه هو أبو يوسف يمد يديه محاولا رفعه , قبل ان يسقط على الأرض
مغشيا عليه .....
كان صباح اليوم التالي مشرقا على غير العادة ، وكان أبو يوسف جالسا على الفراندا
يتناول قهوته الصباحية ..لم تكن لفحات البرد تمنعه من الأسترخاء تحت أشعة الشمس
بعد أن اضناه التعب عقب تلك الليلة المشؤومة والغريبة حتى بأدق تفاصيلها ..كان قد
قضى اليوم كله و الساعات الأولى من ليلة أمس في المستشفى مع الأستاذ خليل
بعد أن أسعفه بصعوبة ،وتحاشى طوال اليوم الفائت سرد حقيقة ما حدث لأحد حتى
لزوجته الطبيبة ، ثم عاد الى بيته ليأخذ قسطا من الراحة ، ريثما يعود للإطمئنان عليه
مساء هذا اليوم ..
رفع أبو يوسف الصحيفة اليومية من تحت صينية الشاي ..أصبحت الصحيفة شبحا ينذر
باقتراب النهايات المؤلمة ..في الصفحة الأولى وبخط عريض قرأ هذا الخبر المؤلم :
ـــ إتحاد المحامين العرب واتحاد الكتاب العرب ينعون إليكم ببالغ الأسى والحزن ، وفاة
المع كتاب روايات الجريمة وقصص الرعب الأديب والمحامي الدكتور خليل القوادري ،
أستاذ القانون الدولي المعروف ، إثر نوبة قلبية داهمته صباح أمس أثناء زيارته لمدفن
الإيمان على طريق بيروت الرئيسي ..إن لله وإنا اليه راجعون
- رحمك الله يا أستاذ خليل ..رددها أبو يوسف بصوت منخفض رتيب .. وتابع بصوت غير
مسموع وكأنه يعرف سراً لا يعرفه أحد غيره
- ايه .. يمهل ولا يهمل ..ثم رفع صوته مناديا زوجته :
- علينا العودة قبل خروج الجنازة من المستشفى ..والغيوم بدأت تغطي السماء
..أسرعي يا أم يوسف قبل أن تمطر مرة ثانية –..
نهض أبو يوسف ليرتدي ثيابه على عجل إستعدادا لزيارة قبر ابنته حنان ، عذراء القبور .
الـــنـهـــــــايـــــــة
الجزء الثاني والأخير
لقراءة الجزء الأول .. عذراء القبور ... الجزء الأول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
{ لم أعد أحتمل المزيد من المفاجآت ، على الأقل لهذا اليوم ، هل كبرت على
مواقف مخيفة كهذه ..اذا سمعت إجابة شافية ، سأعود الى مكتبي لأمزق كل
قصص الجريمة والرعب التي كتبتها ..فأي رعب أكثر مما أنا فيه ؟ ..حتى لو
كنت أحلم ، فهو أسوأ كابوس داهمني في حياتي }
- يا أبا يوسف ، يا أم يوسف .. هل تظنون أني خرفت حتى أحكي لكم قصة عن
فتاة توفيت منذ تسع سنوات ؟ أقول لكم ، غطيتها بمعطفي الأسود ..وكانت
عارية ..عفواً ، أقصد لم يكن يسترها سوى رداء أبيض أشبه ب..استغفر الله ..
بالكفن ، و انتـشلتها من على الطريق من مكان ليس فيه سوى مقبرة الإيمان ..أعتقد
أنكم تعرفونها ..
جحظت عينا أبو يوسف قليلا ..ثم عاد وجهه إلى اتزانه السابق ..وفتح فمه ببطأ
-محاولاً شرح شيء وفهم أشياء أخرى - ..
- أتقول : مقبرة الإيمان ، نعم ابنتي مدفونة هناك ..هذا صحيح ، ولكن متى كان
الأموات يركبون السيارات يا دكتور .. بالله عليك ، اعذرني فأنا
لا أشك في روايتك ، ولكن نحن أيضا لسنا مجانين حتى نصدق بأن ابنتنا
المتوفاة منذ تسع سنين ، أتت ليلة أمس الى البيت ..متى ؟ وكيف ؟
- هلاّ اريتني قبر المرحومة ابنتكم ؟ نطقها المحامي برتابة كلمة كلمة و هو يصر
على اسنانه و كأنه انسان آلي ..
- حسنا ، اود فعل شيئ من اجلك منذ قدومك ..سأصحبك الى المدفن الآن و أريك
قبرها .. أما معطفك الاسود . فلا أظنه يهمك معرفة ما آل إليه مصيره قبل أن
نجد شيئا ينقذنا من حيرتنا الآن .. يبدو أنني اشد رغبة منك الآن في رؤية قبر
ابنتي للوصول إلى نهاية لهذه القصة التي لا يصدقها عقل ..
كانت أم يوسف وأثناء حديث الرجلين اشبه بأحد التماثيل الثلجية التي كانت
تصنعها ابنتها حنان في طفولتها أيام الثلج --صلبٌ كفاية لأن يصمد قليلا ، لكنه
مهددٌ بالإنهيار في أي لحظة --
{ آه ...أما آن الأوان لهذه الذكرى ان تندثر ، ولهذا الوجع أن يستكين؟ ..قلبي
احترق حزنا عليكِ يا حبيبتي ، وما ينبض في جسدي المنهك هو رماده لا اكثر ،
لقد كبرتُ عشرين عاما في يوم واحد ..
يومٌ لم أشهد سوادا أكثر من منه ، تسع سنين في تسعين سنة , عاهدت نفسي
أن لا أعيش لغيرك وأنت حية ، فلمن أعيش بعد موتك؟ لم يكن أحد من زوار
المدفن يخرج منه قبل أن يمر على قبرك ..كانوا يعلمون كم كنت تحبين الأطفال
والخير والثلج .. وكانوا يشعرون بأن الملائكة تجتمع كل يوم فوق بيتك الصغير
في ذلك المدفن ..فأطلقوا عليك اسم عذراء القبور ، فقد كنت أصغر المتوفيات
سنا ... كيف خطر لذلك السائق ا لمتهور ان يدهس تلك الوردة ذات الستة عشر ربيعا }
ـــ كانت حنان تعبر الشارع ..الى جمعية اليتامى في الجانب الآخر .. لتضع ما
تملكه من ثياب ، والعاب ومصروفها من والديها على طاولة مديرة الجمعية ،
بعد أن تقطع مسافة نصف ساعة مشيا على الأقدام ..لم تكن قبل ذلك تضطر إلى
قطع هذه المسافة ، لولا أن انتقل مقر الجمعية ، من مقابل مدرستها تماما إلى
منطقة بعيدة ، خافت حنان وقتها من أنها لن تستطيع بعد الآن زيارة الجمعية
للتبرع واللعب مع الأطفال اليتامى ولو لساعات كل أسبوع .. سمعت حنان
يومها من معلماتها بأن صاحب الأرض التي بنيت عليها الجمعية رفع دعوى
على الجمعية لإسترداد الأرض بحجة أن الأرض مملوكة لجده ..ولأنه صاحب
نفوذ في دوائر الحكومة ولدى السلطة القضائية ، ربح الدعوى وهدم الجمعية
ليبني عليها مكاتب تجارية .. واضطرت الجمعية إلى استئجار مبنى قديم في
منطقة بعيدة بسبب قلة مواردها المالية ... كم كرهت حنان يومها كل أصحاب
الأراضي وكل المحاكم وكل القضاة وكل شيئ ...حتى البراءة أحيانا تتعلم الكره
وحب الإنتقام ـــ ...
وصل الرجلان إلى المدفن ، كانت الغيوم السوداء الكثيفة قد حولت هذا الصباح الجنائزي
إلى لوحة مخيفة من الليل الداكن .. وكانت شواهد القبور تنطق بالحقيقة الوحيدة في
حياتنا ..
ـــ كم أنت قريب أيها الموت رغم أننا لا نراك ..أو على الأغلب لا نريد ان نراك ـــ .
كان الرجلان صامتين ، والمحامي يحاول - استعدادا لأي مفاجأة محتملة - أن يبدو صلبا
عنيدا ، على الأقل أمام أبو يوسف .
ــ أنت تكتب رواياتٍ تنشر الرعب بين القراء ، فهل ستسمح لنفسك بأن تبدو مذعوراً أمام
احد قرائك ؟ ـــ
ما إن اقترب الإثنان من قبر حنان ، وقبل أن يتمكن أبو يوسف من رفع يديه لقراءة الفاتحة
،حتى انهمر سيل المفاجآت كصاعقة مباغتة ..
كانت المفاجأة الأولى هي الكفن الأبيض - الرمادي - كان مرميا على القبر وملفوفا كأنه
يغطي شيئا تحته
ـــ الم تكن تكفيك هذه المفاجأة أيها المحامي الشجاع ؟ حسنا ، اليك الثانية :
رفع الأستاذ خليل الكفن المهترء ، هاهو المعطف الأسود ، مرتب ومصفوف على جرائد
..لا إنهما جريدتين فقط ..
ـــ كم سيحتمل قلبك المسن من مفاجآت أيها المحامي العتيد ..ربما إن إجتاز قلبك
الحديدي المفاجأة التالية ، سيصبح المجهول القادم أسهل وطأة ً مما مضى على دقاته
المتسارعة
ـــكانت الجريدة الأولى صفراء اللون ، ومن إصدار قديم ،اصدار بتاريخ سابق لهذا اليوم
بتسع سنوات ..على الصفحة الأولى ، من الأسفل مربع متوسط الحجم .. إنه نعي وفاة
حنان إثر حادث دهس ٍ مفجع، ولأن الفتاة كانت محبوبة لدى جمعيات البر والإحسان ،
فقد كان النعي باسم جمعية رعاية الأطفال المصابين بالسرطان..
ـــ هاهم الملائكة الصغار يزفون حبيبتهم العذراء في أجمل عرس ٍ للموت كان عليك أن
تراه أيها الكاتب المغرور .. ترنح الأستاذ خليل قليلا ، وشعر بأن قواه بدأت تخور
ـــ لملم شجاعتك أيها الفارس الصنديد .. لم يبق سوى مفاجأة أخيرة وصغيرة فلا تسمح
لها بأن تكون القاضية ـــ .
تناول الاستاذ خليل الجريدة بيدين ترتعشان ..كانت الجريدة مفتوحة على الصفحة الرابعة
، أعاده الخبر الى عشر سنين خلت ،وأطبق على عينيه كالمطرقة ، لم تعد عيناه
تشاهدان بوضوح ، لكنه اضطر إلى قراءة الخبر ليقنع نفسه بأنه مازال على قيد الحياة ..
*صدور الحكم النهائي بالدعوى المقامة من المحامي خليل القوادري ، على أحد
الجمعيات الخيرية، لصالح المدعي ، بعد أن كان المحامي قد ادعى بأن الأرض أساسا
مملوكة لجده سليمان باشا القوادري *...
تراخت ساقا الأستاذ خليل .. وبعينين نصف مغمضتين رأى نفقا بعيدا مظلما ، ونورا
يسطع في آخره وسمع صوتا عاد بذاكرته الى يوم امس ..آخر عبارة سمعها من حنان
قبل أن تغادر سيارته ..كانت تقف في آخر النفق ..يا آلهي ! كيف أمكنني أن اسمعها
وهي أبعد مما يمكن لعينيّ أن ترى .. إنني أسمعها بوضوح ..(إلى اللقاءأيها الرجل
الطيب ) وكان آخرما رأه هو أبو يوسف يمد يديه محاولا رفعه , قبل ان يسقط على الأرض
مغشيا عليه .....
كان صباح اليوم التالي مشرقا على غير العادة ، وكان أبو يوسف جالسا على الفراندا
يتناول قهوته الصباحية ..لم تكن لفحات البرد تمنعه من الأسترخاء تحت أشعة الشمس
بعد أن اضناه التعب عقب تلك الليلة المشؤومة والغريبة حتى بأدق تفاصيلها ..كان قد
قضى اليوم كله و الساعات الأولى من ليلة أمس في المستشفى مع الأستاذ خليل
بعد أن أسعفه بصعوبة ،وتحاشى طوال اليوم الفائت سرد حقيقة ما حدث لأحد حتى
لزوجته الطبيبة ، ثم عاد الى بيته ليأخذ قسطا من الراحة ، ريثما يعود للإطمئنان عليه
مساء هذا اليوم ..
رفع أبو يوسف الصحيفة اليومية من تحت صينية الشاي ..أصبحت الصحيفة شبحا ينذر
باقتراب النهايات المؤلمة ..في الصفحة الأولى وبخط عريض قرأ هذا الخبر المؤلم :
ـــ إتحاد المحامين العرب واتحاد الكتاب العرب ينعون إليكم ببالغ الأسى والحزن ، وفاة
المع كتاب روايات الجريمة وقصص الرعب الأديب والمحامي الدكتور خليل القوادري ،
أستاذ القانون الدولي المعروف ، إثر نوبة قلبية داهمته صباح أمس أثناء زيارته لمدفن
الإيمان على طريق بيروت الرئيسي ..إن لله وإنا اليه راجعون
- رحمك الله يا أستاذ خليل ..رددها أبو يوسف بصوت منخفض رتيب .. وتابع بصوت غير
مسموع وكأنه يعرف سراً لا يعرفه أحد غيره
- ايه .. يمهل ولا يهمل ..ثم رفع صوته مناديا زوجته :
- علينا العودة قبل خروج الجنازة من المستشفى ..والغيوم بدأت تغطي السماء
..أسرعي يا أم يوسف قبل أن تمطر مرة ثانية –..
نهض أبو يوسف ليرتدي ثيابه على عجل إستعدادا لزيارة قبر ابنته حنان ، عذراء القبور .
الـــنـهـــــــايـــــــة