
دمشق-هوشنك أوسي
"لن يكلِّفنا سحقهم سوى أربع وعشرين ساعة". هذا ما قاله الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، عبر التلفزيون التركي، تعليقاً على شنُّ مقاتلي حزب العمال الكردستاني أوَّل عمليَّة عسكريَّة على الثكنة العسكريَّة في مدينة "أروه" التابعة لولاية سيرت، يوم 15 آب سنة 1984.
وقتئذ، كان أوزال، أوَّل رئيس وزارة، بعد الانقلاب العسكري الذي جرى في تركيا يوم 12/9/1980، الذي قاده الجنرال كنعان إفرين، وكان الأخير رئيساً للجمهوريَّة. وتوفّي أوزال في ظروف غامضة سنة 1993، وتعاقب على رئاسة تركيا ثلاثة رؤساء آخرون: سليمان ديميريل وأحمد نجدت سيزر، وحاليَّاً عبدالله غُل، وتعاقب على رئاسة الوزارة منذ سنة 1984 ولغاية الآن، أحزاب ورؤساء حكومات كُثُر، وتعاقب على رئاسة هيئة الأركان العامَّة، سبع جنرالات، هم: محمد نجدت أوروغ، نجيب تورنتاي، دوغان غوريش، إسماعيل حقي قره داي، حسين كفركأوغلو، حلمي أوزكوك، ياشار بيوكأنيط، وحاليّاً، إلكر باشبوغ.
كل هؤلاء، وعدوا تركيا باقتراب اجتثاث الكردستاني، وفشلوا في ذلك، ولا يزال نزيف الدماء مستمرَّاً، ولم يطوى الملفّ الكردي في تركيا عسكريَّاً!. والـ"24 ساعة" التي تحدَّث عنها أوزال، صارت الآن 24 سنة، مليئة بالحرب والضحايا والدماء من الجانبين!.
خلال ثلاثة عقود، ومنذ 27/11/1978، (تاريخ ولادة العمال الكردستاني)، ولغاية اليوم، استطاعت حركة عبدالله أوجلان، لفت الأنظار المحليَّة والإقليمية والدوليَّة لمعاناة الشعب الكردي وقضيته في تركيا، بعد حالة من السبات والركود والقنوط اجتاحت المجتمع الكردي في تركيا، لدرجة كان الكرديُّ يخجلُ فيها من كرديَّته.
ودام ذاك الركود القومي أكثر من نصف قرن، منذ 1938، حين سحق الأتراك انتفاضة سيد رضا الكرديَّة (العلويَّة) في ديرسم، ولغاية 15/8/1984، تاريخ إعلان العمال الكردستاني الكفاح المسلَّح على الدولة التركيَّة. وبعد دخول الحال الكرديَّة بعد 1984، مرحلة النهوض القومي ووصولها في العقدين الأخيرين للانتعاش، بدأ الخيار المسلح لدى الحزب الكردي يتراجع من خيار استراتيجي، اتخذته كل حركات التحرر الوطني، إلى خيار تكتيكي، لزوم تأمين الضغط السياسي. وما يؤكِّد ذلك، إعلان الحزب الكردي لوقف إطلاق النار، خمس مرَّات، من جانب واحد، منذ 1993 ولغاية 2006، دون أن يلقى أيَّة نتيجة إيجابية من جانب الأتراك.
بالإضافة إلى دعواته المتكررة في رغبته لإلقاء السلاح، بشرط أن تكون هنالك ضمانات دستوريَّة للحقوق الكرديَّة. ومن الأهميَّة بمكان الإشارة إلى أن المقاومة المسلَّحة للحزب الكردي في تركيا، قد أنتجت حراكاً مدنيَّاً فاعلاً ونشطاً، يزداد اتساعاً، عبر تشكيل أحزاب سياسيَّة، تخوض انتخابات برلمانيَّة وبلديَّة، وتشكيل العشرات من المنظمات الحقوقيَّة والمدنيَّة والأهليَّة بين الأكراد، المدعومة بمؤسسات إعلاميَّة. وعليه، ليس من المجازفة القول: إن السلاح الكردي، حقق قسطاً وفيراً من أهدافه السياسيَّة، ومسألة توقُّف السلاح الكردي عن العمل، باتت مسؤوليَّة تركيَّة أكثر منها كرديَّة، لكون الطرف الكردي أبدى استعداده للتخلِّي عنه مراراً، إن وفَّرت تركيا الظروف المواتية لذلك. وحددها الكردستاني بجملة من الإجراءات والإصلاحات التي لا تتجاور مطالب الاتحاد الأوروبي من تركيا. لكن، التعنت التركي يقف في المرصاد.
وعلى الطرف الآخر، لا يمكن تجاهل حجم الأضرار التي لحقت بالمناطق الكرديَّة جنوب شرق تركيا، نتيجة المعارك الدائرة هناك، ولجوء الجيش التركي لممارسة سياسة الأرض المحروقة مع هذه المناطق، ما أدَّى إلى إحراق وتدمير أكثر من 5000 قرية كرديَّة، وتهجير سكَّنها إلى المدن الكبرى، وسقوط حوالي 20 ألف من الجانب الكردي وأضعاف هذا العدد من الجانب التركي. ويبدو أن السلطات التركيَّة، قد عادت مجدداً لانتهاج تلك السياسة، عبر إضرام النيران بالغابات والأحراش في القرى والمناطق الجبليَّة.
التمهيد للعمل المسلَّح
يقول أوجلان في كتاباته، ما معناه، إنه "حين بدت لنا بوادر اقتراب حدوث انقلاب عسكري في تركيا تلوح في الأفق، قررنا الخروج من الوطن، والاتجاه إلى سورية ولبنان، لأن كلا البلدين كان يعانيان من حرب أهليَّة". وفعلاً، أرسل أوجلان رفيقه كمال بير (من مؤسسي حزب العمال، وهو من أصل تركي) إلى سورية، ليبدأ هذا، بالتواصل مع بعض الفصائل الفلسطينيَّة، التي كان بير على علاقة معها نهاية الستينات، وقد كان في لبنان وقتئذ، كعضو في إحدى المنظمات اليساريَّة التركيَّة التي تربطها علاقات مع بعض الفصائل الفلسطينيَّة.
ولم يكن بير يحتفظ في ذاكرته سوى باسماء بعض القادة الميدانيين الفلسطينيين. وصل بير إلى حلب ثم إلى دمشق، واستطاع التعريف بنفسه كقيادي في حزب العمال الكردستاني لدى المنظمات الفلسطينيَّة. وبعدها حصل منها على هوايَّات وجوازات سفر فلسطينيَّة كي يستطيع أوجلان الوصل إلى لبنان والتحرُّك بواسطتهما. يقول أوجلان عن تلك المرحلة: "عيون كلّ الفصائل الكرديَّة التركيَّة، كانت على أوروبا، لكن أعيننا كانت على العودة إلى الوطن".
ورغم أن انقلاب 12 أيلول سنة 1980 في تركيا قد اعتقل الآلاف من عناصر العمال الكردستاني، إلاَّ أن أوجلان استطاع إخراج بضعة مجموعات إلى سورية، ثم إعادتها إلى تركيا للبدء بالدعاية للعمل المسلح بين الأكراد. فاعتقل قسم كبير من هؤلاء، من بينهم صديق أوجلان: كمال بير، ورافقه الآخرين؛ خيري دورموش ومظلوم دوغان...، وكلُّهم من مؤسسي الكردستاني. واعتبرت هذه الاعتقالات ضربة أخرى للكردستاني، لكنه عاود نشاطه. وإبان الغزو الإسرائيلي للبنان، أبدى عناصر الكردستاني مقاومة شديدة، لا زالت الفصائل الفلسطينيَّة تتذكِّرها، بخاصَّة قيادات الجبهتين الشعبيَّة (د: ماهر الطاهر) والديمقراطيَّة (نايف حواتمة).
وحتى بعد وصول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت، استمرَّ المقاتلون الكرد في مقاومتهم في قلعة شقيف، إلى جانب المقاتلين الفلسطينيين. وسقط 11 مقاتل كردي في قلعة شقيف، وتمَّ أسر الباقي، أفرجت عنهم إسرائيل، بعد مضي أكثر من سنة، قضوها في السجون الإسرائيليَّة.
على خلفيَّة المقاومة الكرديَّة في لبنان، منحت الجبهة الديمقراطيَّة إحدى معسكراتها التدريبيَّة في برالياس بسهل البقاع لحزب العمال. ومن هناك، بدأ التهميد للعمل المسلَّح، إلى أن تمَّ تحديد 15 آب / أغسطس سنة 1984 لشنُّ هجوم على ثلاثة ثكنات عسكريَّة في مدن: أروه، التابعة لمحافظة "سيرت"، وشمدينلي التابعة لمحافظة "هكاري"، وجاتاك التابعة لمحافظة "وان"، في وقت واحد. وفشلت العمليَّة في المدينة الأخيرة، ونجحت في أروه وشمدينلي. وكان قائد العمليَّة العسكريَّة في أروه، أحد كبار قادة العمال الكردستاني ومؤسسيه، ويدعى معصوم كوركماز "عكيد" من مواليد فارقين سنة 1956. وحين أطلق "عكيد" الرصاصة الأولى على الثكنة، كان عمره وقتئذ 28 سنة. هذا القائد الميداني سقط في إحدى الاشتباكات في 27 آذار مارس سنة 1986 في جبال كابار. وصار اسم "عكيد" مرفقاً بالانطلاقة المسلحَّة للعمال الكردستاني.
24 سنة مضت
بعد مضي 24 سنة على حمل الأكراد للبنادق في مواجهة تركيا، كيف ينظر الأكراد إلى هذا الصراع وإلى استمرار حمل البنادق؟. رئيس اللجنة التنفيذيَّة لحزب العمال الكردستاني مراد قره إيلان، وفي حديث خاص لـ"الحياة" يوم 31/8/2007، قال: "إننا قادرون على مواصلة الحرب 24 سنة أخرى، إن أرادت تركيا ذلك". وطرح في ذلك الحوار جملة من المطالب التي ينبغي أن تحققها تركيا، حتى يلقي الكردستاني سلاحه.
وكرر العمال الكردستاني في تصريحاته الأخيرة، بمناسبة مرور 24 سنة على انطلاقته المسلَّحة نفس المطالب والشروط، وزاد من نبرة تهديده لتركيا، ونيّته لتصعيد الحرب، "إن لم ترتكن تركيا للحل السلمي للقضيَّة الكرديَّة". وبدأ الكردستاني استهداف المناطق الاقتصاديَّة الحيويَّة مؤخرَّاً كتفجير أنابيب البترول التي تنقل النفط العراقي لميناء جيهان التركي، عدا عن إسقاطه 3 مروحيات تركيَّة، والهجوم على ثكنات عسكريَّة، ونصب الكمائن، ووضع العبوات الناسفة، التي أودت بأرواح المئات من الجنود والضبَّاط الأتراك بين قتيل وجريح. وشملت هذه المعليات، كافة مناطق كردستان تركيا، (جنوب شرق تركيا)، قبل أيَّام. وآخرها، كانت يوم 3/10/2008، على ثكنة "بيزاله/آكتوتون" عسكريَّة، التي تضمّ أكثر من 300 جندي وضابط تركي. وبحسب تصريحات الجيش التركي، فقد "سقط 17 جندي وجرح 20 آخرون. كما سقط 23 مقاتل كردي في الهجوم". أما حسب تصريحات الكردستاني، فقد "سقط 62 جندي، وتم تدمير الثنكة، وإصابة حوامّة. وسقط 9 مقاتلين أكراد. وتمّ تصوير الهجوم على الفيديو". هذا الهجوم النوعي لحزب العمال الكردستاني، أشعل تركيا مجدداً، وأحرجها حكومةً وعسكراً. وأطلقت موجة من التنديد والنقد الشديد للحكومة والمؤسسة العسكريَّة في الصحافة التركيَّة، لم تشهدها تركيا منذ تأسيسها سنة 1923. كما عاودت تركيا مساعيها الدبلوماسيَّة الحثيثة لحشد العالم كله خلف خيارها العسكري لحسم الملفّ الكرديّ في تركيا عسكريَّاً. واضطرت تركيا لفتح قنوات حوار مباشرة وعلنيَّة مع حكومة كردستان العراق، لجهة إيجاد حلول مشتركة بين أنقرة وواشنطن وبغداد، يكون لأربيل محلّ من الإعراب فيها، ضد العمال الكردستاني. في حين، كان القادة الأتراك، يتعالون على الإقليم الكردي، رافضين الاعتراف به وبقيادته، واصفين القيادة الكرديَّة العراقيَّة، بـ"زعماء عشائر، وقبليين متخلِّفين، لن تجالسهم تركيا...". أمَّا الآن، فأنقرة مجبرة على التحاور مع قيادة كردستان العراق والاعتراف بالإقليم الفدرالي الكردي، على خلفيَّة تصاعد وتيرة عمليَّات حزب العمال الكردستاني.
ومع معاودة دوَّامة العنف التركي، والعنف الكردي المضاد، بدأت تتعالى أصوات كثيرة، تطعن في جدوة البنقديَّة الكرديَّة، وتسوِّق لحكومة حزب العدالة والتنمية، وزعيمها أردوغان، وتظهره على أنه "حمامة سلام"، وإظهار مقالتي الكردستاني، على أنهم "قتلة وإرهابيين". والحق أن النضال الكردي في تركيا، يتعرَّض لحكمة تعتيم وتضليل وتشويه لا مثيل لها في الإعلام العربي، عبر "كتبة" من مراسلي الصحف والقنوات الإخباريَّة العربيَّة، الذين يخرج أداءهم في تغطية وتحليل الأحداث في تركيا، عن بوصلة الخطاب الرسمي التركي. وما زاد الطين بلَّة، هو انزلاق بعض الكتَّاب الكرد في العراق وسورية، لتسويق وجهة النظر التركيَّة، لأغراض، لم تعد خافية. على الطرف الآخر، هنا شريحة واسعة من النخبة الكرديَّة التي تسعى لتقديم المشهد الكردي في تركيا، بمنأى عن جرعة التضليل والتشويه التركيَّة، وتأثيرات الـ"البروكسي" الإعلامي التركي في الإعلام العربي.
يقول الكاتب والإعلامي الكردي طارق حمو المقيم في ألمانيا، للكردية نيوز حول البندقيَّة الكرديَّة، "إن الرصاصة الأولى في يوم 15/8/1984، كانت موَّجهة لثقافة الخوف والرعب التي زرعتها تركيا في الشخصيَّة الكرديَّة، عبر عقود من عمليات الصهر القومي. البندقيَّة الكرديَّة هي التي أعادت للكردي كرامته وإرادته وشخصيَّته، وأحيت فيه روح المقاومة، بعد أن ظنَّ الأتراك بأنهم قد نجحوا في اقتلاعها من المجتمع الكردي. وأيّ منفرج سياسي قادم في الملّف الكردي في تركيا، مردُّه بنادق ثوارنا، وصرخة 15 آب البطلة في وجه الاتاتوركيَّة".
ويقول مم ميرخان، الكتاب في صحيفة آزاديا ولات الصادرة بالكرديَّة في مدينة آمد، كبرى مدن كردستان تركيا (تمَّ حظرها قبل أيَّام لمدَّة شهر، بقرار من المحاكم التركيَّة): "هل كان لي أن أكتب حرفاً بلغتي الأم في دولة أتاتورك، لو لم يحمل ثوارنا البنادق في الخامس عشر من آب؟. هل كان لنا أن نرى صحافة وإعلام كردي داخل تركيا وفي أوروبا، لولا تلك البنادق؟. حين أنظر إلى الـ24 سنة الماضية، لا أصدِّق نفسي. المرأة الكرديَّة التي كان مضطهدة ومغبونة ومقموعة في الأرياف، وتحرث الأرض، وترعى المواشي، هي الآن مقاتلة وثائرة تطالب بالحريَّة لنفسها ولشعبها. هذه إحدى منجزات 15 آب، بأن أحدثت معجزة في بنية المجتمع الكردي، فصارت المرأة الكرديَّة أمثولة نضاليَّة في العالم. سنة 1991، البندقيَّة الكرديَّة كانت وراء دخول ليلى زانا للبرلمان التركي. وفي سنة 2007، نفس البندقيَّة، تقف وراء وجود ثماني نساء، ثماني (ليلى زانات) في البرلمان التركي". وليلى زانا هذه، هي ناشطة سياسيَّة كرديّة، وبرلمانيَّة سابقة، قضت 10 سنوات في السجون التركيَّة، بتهمة الانتساب للكردستاني.
الكردي بين القلم والبندقية
الكاتب حسن حسين دنيز (48 سنة)، فُصِل من الثانويَّة في اسطنبول على خلفية قصيدة كتبها سنة 1977. ومنذ أن تأسس الكردستاني وهو عضو فيه. سنة 1988 جاء إلى لبنان لتلقِّ دورة عسكريَّة في معسكر حزب العمال في برالياس. منذ ذلك الحين، وحتى سنة 2004 كان مقاتلاً، يحمل البنادق. لكن الآن يحمل القلم. وله ما يقارب 17 كتاب بين رواية وشعر وقصص وكتب في قواعد اللغة الكرديَّة. صدر له حديثاً في اسطنبول كِتابان، الأول، في قواعد اللغة الكرديَّة، والثاني، رواية بعنوان: "الأمل يعيش أبداً". يقول دنيز حول تجربته في حمل البنادق والعمل المسلَّح للكردية نيوز : "ماذا تتوقَّع من مجتمع وشعب ذاق الذل والهوان على مدى عقود؟. لو لم يكن هنالك حزب العمال، ولو لم يكن حمل السلاح في 15 آب، كيف كنت تتصور الشعب الكردي في تركيا!؟. لكان هذا الشعب، على وشك الإبادة الاجتماعيَّة والثقافيَّة والنفسيَّة.
الأكراد في تركيا، ونتيجة حملات الصهر والتذويب القومي، كانوا يشعرون بالعار حول ذكر حقيقتهم القوميَّة الكرديَّة، ويفتخرون بأنهم أتراك. أمَّا الآن، هنالك شعب كردي يقاوم، ويناضل من اجل حقوقه العادلة، في البرلمان في المؤسسات المدنيَّة وعلى قمم الجبال". ويردف دنيز الذي يقيم حاليّاً في جبال قنديل، على الحدود التركيَّة _ العراقيَّة، وقد تفرَّغ للكتابة: "أخي، حسين دنيز، كان صحفيّاً، يكتب في جريدة "أوزعور غوندم"، اغتالته المخابرات التركيَّة سنة 1992، هل لأنه كان يحمل البندقيَّة؟!. لا، بل لأنه كان يدافع بقلمه عن البندقيَّة الكرديَّة".
هيفيدار محمد صالح (37 سنة)، فتاة كرديَّة سوريَّة، كانت في السنة الثالثة من دراستها، حين تركت كليَّة الهندسة المدنيَّة بجامعة حلب، وانتسبت لحزب العمال الكردستاني سنة 1991. وسبقها للانتساب لهذا الحزب شقيقها التوأم شيار محمد صالح. هيفيدار هذه، تجيد التركيَّة والعربيَّة والكرديَّة، قراءةً وكتابةً بطلاقة. وقد ترجمت العديد من كتب أوجلان من التركيَّة إلى العربيَّة. هيفيدار التي تحمل السلاح منذ سنة 1992 ولغاية اللحظة، وهي الآن قياديَّة بارزة، تقول حول تجربتها: "حملات الصهر والتذويب القومي، مثلما كانت تمارس في تركيا، كانت تمارس في سورية أيضاً. كنَّا نتحدَّث بالعربيَّة في المنزل، وكنَّا على وشك نسيان اللغة الأم. كنَّا نعاني التمييز، ونسمع أخبار المقاومة في جبال كردستان. الأحزاب الكرديَّة في سورية، بانشقاقاتها وفوضاها، لم تكن تلبِّي طموحاتنا ونزوعنا نحو التحرر، ونيل حقوقنا العادلة كنساء كرديات في المجتمع الكردي السوري. وجاء العمال الكردستاني، وانتشلنا من واقعنا المتردّي المتأزِّم، وفتح أعيننا على أفكار ومواقف جديدة كنَّا نتوق إليها، فحملنا السلاح، ليس حبَّاً فيه، لكن حبَّاً في الحريَّة".
وحول مقارنة البعض سلاح حزب العمال بسلاح حزب الله اللبناني، تقول هيفيدار، بشيء من الانزعاج: "إن هكذا مقاربة، تنمُّ إمَّا عن جهل أو إمَّا عن تشويه مقصود. سلاحنا، لا يستند لخفيَّة طائفيَّة، فئويَّة، وليس لخدمة أجندة إقليميَّة كسلاح حزب الله. حزب الله لا يفكِّر مجردَّ تفكير في التخلِّي عن سلاحه، ويعتبره مقدِّس. أمَّا نحن، فحتى هذه اللحظة، نودُّ التخلِّي عن السلاح، بشرط وجود جدولة أو برنامج متكامل لحلّ القضيَّة الكرديَّة سلميَّاً في تركيا. السلاح لم يكن في أيّ من الأيَّام، يصل لدرجة القداسة لدينا. لكن القضيَّة الكرديَّة بالنسبة لنا مقدسَّة، تركنا حياتنا الخاصَّة، وبيوتنا وأهالينا، وأتينا لهذه الجبال، لنخوض هذه الحرب، دفاعاً عن حقوق الشعب الكردي وقضيته العادلة. حزب الله، هو امتداد للمحور السوري _ الإيراني، أمَّا نحن، فلا الاتحاد السوفياتي موجود، حتى نُحسّب عليه، ولا علاقاتنا من إيران وسورية كالسابق. على العكس، سورية وإيران دخلتا في تحالف مع تركيا ضدنا. نحن محسوبون على الشعب الكردي وقضيته العادلة وحسب. وإنْ حلَّت هذه القضيَّة، ونال الشعب الكرديّ حقوقه، وبقينا معاندين ومصرِّين على حمل السلاح، حينئذ، فأن وصف الإرهاب، هو أقلُّ ما يقال بحقِّنا".
حرب مفروضة
وحول الأضرار والكوارث التي لحقت بالمناطق الكرديَّة وبالشعب الكردي نتيجة عدم تخلِّي العمال الكردستاني عن الخيار المسلَّح، يقول الكاتب مم ميرخان: "والحال هذه، ينبغي أن نحاسب الملا مصطفى بارزاني والرئيسين مسعود بارزاني وجلال طالباني على حملهما السلاح في وجه نظام صدام حسين، وما خلَّفه الكفاح المسلَّح الكردي هناك، من أضرار هي أضعاف الأضرار التي لحقت بكردستان تركيا. وينبغي ان نحاسب الشهيد عبدالرحمن قاسملو (زعيم الكردستاني الإيراني، اغتيل في فينَّا سنة 1989. ويقال أن أحمدي نجاد، كان على رأس كتيبة الموت التي اغتالته)، لحمله السلاح في وجه نظام الشاه، ثم في وجه نظام الملالي في إيران، وما نتج عن ذلك من أضرار لحقت بكردستان إيران. ويجب أن لا ننسى محاسبة منظمة التحرير الفلسطينيَّة على حملها للسلاح في وجه الكيان العبري. لا شكَّ أن الحرب دوماً قذرة، وقد فرضتها تركيا على الأكراد. لكن، إن دعوة حزب العمال لإلقاء السلاح، بدون ضمانات، والحديث عن الأضرار التي لحقت بأكراد تركيا، هي كلمة حقّ، يراد بها باطل".
الكاتب نذير سلو (36 سنة)، من اكراد سورية، منطقة ديرك. كان مقاتلاً ضمن صفوف حزب العمال الكردستاني منذ 1987، وقد فقد إحدى ساقيه في الحرب سنة 1992. وحاليّاً، ترك الحياة الحزبيَّة، وتفرَّغ للكتابة باللغة الكرديَّة، ويقيم في أوكرانيا، لهو رأي مختلف حول بدء العمال الكردستاني الكفاح المسلَّح، إذ يقول: "كانت هذه الخطوة، نوعيَّة وهامَّة وصائبة في حينها. لكن، تمَّ تحريفها عن مسارها. وازداد هذا الانحراف، بازدياد أمد الحرب". ويلقي الكاتب سلو مسؤوليَّة الحرب على عاتق الطرفين، الكردي والتركي. إلاَّ أنه يحمَّل تركيا، المسؤوليَّة الأكبر، على اعتبارها دولة، بحسب رأيه. واختتم سلو رأيه بالقول: "إن الحروب، لا يستفيد منها إلاَّ المافيات والعصابات، ولا يدفع ضرائبها إلاَّ الشعوب".
يقول الكاتب والصحفي الكردي حقي بوطان (47 سنة، قضى 15 سنة في السجون التركية منذ 1990 وحتى 2005 بتهمة عضوية حزب العمال الكردستاني)، وهو محرر صفحة الشؤون الدوليَّة في جريدة "آزاديا ولات"، إن حزب العمال الكردستاني بالنسبة لأكراد تركيا هو بمثابة "طائر الفينيق"، وإن الخامس عشر من آب، هو يوم "الانبعاث الكردي من الصهر والقمع والاضطهاد". وأن تركيا لم تترك للكرد سوى "خيار المقاومة والنضال حتى نيل حقوقه، مهما كانت الكلفة".
وأمام تجاهل تركيا للنداءات السلميَّة الكرديَّة، ورفض العمال الكردستاني للاستسلام وإلقاء سلاحه، دون قيد أو شرط، ووسط المساندة الأمريكيَّة والإقليميَّة والأوروبيَّة في حربها على حزب العمال الكردستاني، يبقى هذا الأخير، وحيداً في قلب المعركة، ويبقي بين خياريات ثلاث: إما الاستلام أو التصفية او المقاومة. ويبقى النزيف الكردي _ التركي في تزايد مستمرّ، إلى أجلٍ غير مسمَّى. ريثما يطرأ تحوّل ديمقراطيّ حقيقيَّ في تركيا، يقضي بضرورة حقن الدماء، والبحث عن حلّ ناجع لهذه القضيَّة الساخنة، في هذه الجغرافيا الملتهبة.