Kurd Day
Kurd Day Team
ككل أبناء الريف السوري الذين ينتقلون إلى المدينة للدراسة فيها عندما يبلغون المرحلة الثانوية، استأجرت لي غرفة صغيرة في بيت عربي مؤلف من غرفتين منفصلتين يحيط بهما سور منخفض بينما ظلت الغرفة الأخرى شاغرة تنتظر مستأجراً، وما هي إلا أيام على إقامتي في بيتي الجديد حتى سمعت جلبة في الخارج وأنا منعكف على ترتيب أمتعتي البسيطة وكتبي داخل غرفتي، مددت رأسي من الباب لأرى ماذا يجري لتقع عيني على صاحب الدار وقد جلب معه نزيلاً للغرفة الأخرى، ليكون جاراً لي لمدة ثلاثة أسابيع قبل أن يغادر، ورغم صغر سني وضيق ذات اليد آنذاك فقد شعرت بالواجب تجاه الضيف الجديد ففي اليوم الرابع أو الخامس لوصوله دعوته لتناول وجبة العشاء معي: مرتديلا سومر مقلية مع اربع بيضات وحبتين من البندورة ورأس من البصل ورغيفين من الخبر وكازوزتي كراش، هذا ما كان كل عشائنا. أملأ ضيفي معدته وارتد عن السفرة دون أن يحمد الله أو يشكرني على صنيعي وتجشأ ثلاث مرات وهو يحتسي الشاي، عنصر الرفاهية من الوليمة. كان شاباً في السادسة والعشرين من العمر، أي يكبرني بعشر سنوات، نحيفاً متوسط الطول، قال أنه مهندس زراعي ومن ريف حماه وينتظر فرزه إلى إحدى الإرشاديات الزراعية وإلى أن يحين ذلك سيبقى جاري. والحق أني لم ارتح له مذ أن رأيته أول مرة، فقد كان يبدو مخنثاً في تصرفاته وأقواله أي ( طنطاً ) بلغة تلك الأيام، أو لنقل ( طرطوراً ) إن صح التعبير، فرغم فارق السن بيني وبينه كنت استغرب من سلوكه الذي يتسم بالولدنة وعدم التقيد بالآداب العامة من قبيل تباهيه بتعاطي الكحول وخروجه من البيت بشورت قصير أحمر مع حذاء أخضر من غير جورب وتلك الأمور لم تكن مألوفة عند أبناء البلد وتعتبر خرقاً للآداب العامة، لكن لم يكن أحد ليجرؤ على اعتراض سبيله لأن لهجته وسلوكه كانا ينبئان أنه أحد عناصر المخابرات، وما أدراكم ما عناصر المخابرات في عام 1987 .
المهم أن الرجل شرع بعد العشاء ( يمزمز ) كؤوس الشاي ويقحمني بأسئلته الصبيانية وضحكاته السخيفة حتى كان سؤاله الذي جلب له الصداع حين قال:
من أي العرب أنت؟
قلت: أنا كردي
قال: شو يعني أنت كردي؟
قلت: يعني أنا مو عربي
فوضع كأس الشاي من يده بسرعة وقال:
مستحيل يا زلمة.
قلت شو هو المستحيل في الموضوع؟
قال: أنو تكون سوري ومو عربي.
قلت: ليش مستحيل خيو؟ سوريا هي بلد وممكن يعيش فيها التركي والكردي والفرنسي و....
فقاطعني يقول: ولكن هي جمهورية عربية وهذا يعني أنو كل واحد عايش فيها هو عربي.
قلت: مو شرط وهاي أنا عم قلك انا مو عربي.
فالتفت إلى يمينه حيث كتبي على الرف وقال بشيء من الحدة:
وتدرس بالعربي؟
قلت: نعم أدرس بالعربي.
قال: ومانك عربي؟؟
قلت متحدياً: ياسيدي وماني عربي!
فسكت الرجل وفكر كثيراً ونسي كأس الشاي وبعد دقائق من الصمت عاد ليقول:
والله ما عم تدخل براسي
قلت شو يلي ما عم يدخل راسك؟
قال أنو الواحد يكون سوري ومو عربي.
وافترقنا على شيء من الزعل بعد أن رمى المهندس كأس الشاي من يده على البساط المفروش امامه تعبيراً عن سخطه وخرج دون كلمة وداع.
وبعد عدة ايام عدت قبل المغرب من التسوق وأنا أحمل في يدي كيساً فيه حذاء جديد فرأيت صاحبي يجلس في ظل غرفته و(يقرقع) متّة وغارق في التفكير.
قلت له بشو عم تفكر جار؟
قال: يا أخي والله ما عم تزبط معي فهمني يعني كيف سوري ومو عربي؟
ضحكت وقلت له وأنا أريه حذائي الجديد:
يا أخي اترك هالموضوع ولا تشغل بالك فيه لأنو معقد وما راح تفهمو، وصلِّ عالنبي وقلي شو رأيك بهالقندرة؟
وكان الحذاء جميلاً فعلاً وغالي الثمن، وأظن أنني اشتريته بمائتي ليرة سورية بعملة تلك الأيام، وقد اقتنيته لا للمدرسة وإنما للمناسبات فقد كنت وقتها في ذروة مراهقتي وفي باكورة سعيي إلى لفت انتباه الجنس الآخر.
نظر جاري إلى الحذاء ولمسه، ولم يبارك لي به، ولم ينبس ببنت شفة.
وكانت المفاجئة بعدها بعدة أيام عندما عدت من المدرسة لأرى باب غرفتي مخلخلاً يسهل على المرء فتحه، دخلت منه وبدأت أخلع لباس الفتوة الأخضر وجلت ببصري حتى وقع على الخزانة واستقر عليه، إذ خال لي أن ثمة شيئاً ما غير طبيعي قد حصل، اقتربت من الخزانة ودققت النظر في داخلها ثم عدت وقرأت الفاتحة على حذائي الجديد. ومن ثم خرجت وألقيت نظرة على غرفة جاري وإذ هي خاوية على عروشها وكان قاطنها قد هجر.
ومرت عشر سنوات وكنت في خدمة العلم طبيباً بأحد المستوصفات التابعة لمطار عسكري في ريف دمشق، ودرجت العادة أن أتصل بقائد السرب العقيد سمير عندما يكون مناوباً يوم الجمعة وأطلب منه إذناً بالسفر إلى دمشق صباحاً للتسوق والعودة قبل المساء، ويرد علي العقيد دائماً قائلاً: إذنك معك يا دكتور ولكن بشرط، ويضحك العقيد. وأرد عليه: لا تقلق فالشرط مصان سيادة العقيد وسألبيه. وأعود المساء إلى مكتبه وفي يدي لتر من عرق الريان ومعه قليل من الموالح وفاءً للوعد.
وفي إحدى المرات قال لي عندما سلمته القارورة: والله يا دكتور أنت شبيه العرب!
قلت: شو بتقصد سيادة العقيد
قال: أقصد أنك كريم وشهم ونبيل ومؤدب.......
قلت: يعني قصدك أنو كل هالخصائل هي من شمائل العرب دون غيرهم يا سيادة العقيد؟ وأنو لا يمكن لغير العربي أنو يكون شهم وكريم ونبيل.
وارتبك عقيدنا قليلا ولم يعرف ماذا يجيب بل وتهرب من الإجابة بالإلحاح عليّ على أن أشاركه سهرته. وجلست معه وعندما أكمل كأسه الأولى وبدأت النشوة تدب في روحه ولاحظ عليّ ابتسامة، حلف بالطلاق على أن أخبره سبب هذه الابتسامة.
قلت له لا شيء يضحكني سوى عبارة ( أنت شبيه العرب ) يا سيادة العقيد، ففي اللغة العربية ثمة لاحقة إذا دخلت على الكلمة صارت تعني شبيهها هل تعرفها؟
قال: لا
قلت: هي ( آني ) ونستخدمها في اللغة الطبية كثيرا للدلالة على شبيه الشيء ففي المعصم مثلاً عظم شكله يشبه شكل حبة السمسم لذلك يطلق عليه اسم العظم السمسماني أي الشبيه بالسمسم، وهناك داء تجتمع فيه مادة في الجسم شبيهة بالنشاء يطلق عليه الداء النشواني أي الشبيه بالنشاء.
فضحك العقيد وقال: معناتا أنت عَرَبَاني يا دكتور. وضحك وضحك
ثم تابع قائلاً: ونقيس على ذلك يادكتور، اسمعني: الرائد ظاظا كردي، ولكنو يتهرب من كرديتو ليثبت إخلاصو وولاءو إلنا، معناتا هو شووووو؟
قلت: معناتا هو كُرداني.
فانفجر العقيد في ضحكة هستريائية وضحك وضحك.
وبينما كان العقيد يضحك، اقتحم جاري المهندس، أقصد الذي كان جاري قبل عشر سنوات، ذاكرتي وتمنيت لو كنت أعرف حينذاك مصطلح ( عَرَبَاني ) أو ( شبيه العرب ) لأخرجه به من دوامته التي أرقته وسببت له الصداع وأقول له: خلاص خيو أنا شبيه العرب أو ( عَرَبَاني )، عساني كنت وقتها ساعدته في فهم كيف يمكن للمرء أن يكون سورياً دون أن يكون عربياً... فالمهندس المعتوه لا بد أنه فهم الكثير من المعادلات في الهندسة والرياضيات والفيزياء والكيمياء حتى حصل على شهادة الهندسة أما معادلة ( سوري وغير عربي ) ما كانت تجد طريقها إلى مداركه.
المهم أن الرجل شرع بعد العشاء ( يمزمز ) كؤوس الشاي ويقحمني بأسئلته الصبيانية وضحكاته السخيفة حتى كان سؤاله الذي جلب له الصداع حين قال:
من أي العرب أنت؟
قلت: أنا كردي
قال: شو يعني أنت كردي؟
قلت: يعني أنا مو عربي
فوضع كأس الشاي من يده بسرعة وقال:
مستحيل يا زلمة.
قلت شو هو المستحيل في الموضوع؟
قال: أنو تكون سوري ومو عربي.
قلت: ليش مستحيل خيو؟ سوريا هي بلد وممكن يعيش فيها التركي والكردي والفرنسي و....
فقاطعني يقول: ولكن هي جمهورية عربية وهذا يعني أنو كل واحد عايش فيها هو عربي.
قلت: مو شرط وهاي أنا عم قلك انا مو عربي.
فالتفت إلى يمينه حيث كتبي على الرف وقال بشيء من الحدة:
وتدرس بالعربي؟
قلت: نعم أدرس بالعربي.
قال: ومانك عربي؟؟
قلت متحدياً: ياسيدي وماني عربي!
فسكت الرجل وفكر كثيراً ونسي كأس الشاي وبعد دقائق من الصمت عاد ليقول:
والله ما عم تدخل براسي
قلت شو يلي ما عم يدخل راسك؟
قال أنو الواحد يكون سوري ومو عربي.
وافترقنا على شيء من الزعل بعد أن رمى المهندس كأس الشاي من يده على البساط المفروش امامه تعبيراً عن سخطه وخرج دون كلمة وداع.
وبعد عدة ايام عدت قبل المغرب من التسوق وأنا أحمل في يدي كيساً فيه حذاء جديد فرأيت صاحبي يجلس في ظل غرفته و(يقرقع) متّة وغارق في التفكير.
قلت له بشو عم تفكر جار؟
قال: يا أخي والله ما عم تزبط معي فهمني يعني كيف سوري ومو عربي؟
ضحكت وقلت له وأنا أريه حذائي الجديد:
يا أخي اترك هالموضوع ولا تشغل بالك فيه لأنو معقد وما راح تفهمو، وصلِّ عالنبي وقلي شو رأيك بهالقندرة؟
وكان الحذاء جميلاً فعلاً وغالي الثمن، وأظن أنني اشتريته بمائتي ليرة سورية بعملة تلك الأيام، وقد اقتنيته لا للمدرسة وإنما للمناسبات فقد كنت وقتها في ذروة مراهقتي وفي باكورة سعيي إلى لفت انتباه الجنس الآخر.
نظر جاري إلى الحذاء ولمسه، ولم يبارك لي به، ولم ينبس ببنت شفة.
وكانت المفاجئة بعدها بعدة أيام عندما عدت من المدرسة لأرى باب غرفتي مخلخلاً يسهل على المرء فتحه، دخلت منه وبدأت أخلع لباس الفتوة الأخضر وجلت ببصري حتى وقع على الخزانة واستقر عليه، إذ خال لي أن ثمة شيئاً ما غير طبيعي قد حصل، اقتربت من الخزانة ودققت النظر في داخلها ثم عدت وقرأت الفاتحة على حذائي الجديد. ومن ثم خرجت وألقيت نظرة على غرفة جاري وإذ هي خاوية على عروشها وكان قاطنها قد هجر.
ومرت عشر سنوات وكنت في خدمة العلم طبيباً بأحد المستوصفات التابعة لمطار عسكري في ريف دمشق، ودرجت العادة أن أتصل بقائد السرب العقيد سمير عندما يكون مناوباً يوم الجمعة وأطلب منه إذناً بالسفر إلى دمشق صباحاً للتسوق والعودة قبل المساء، ويرد علي العقيد دائماً قائلاً: إذنك معك يا دكتور ولكن بشرط، ويضحك العقيد. وأرد عليه: لا تقلق فالشرط مصان سيادة العقيد وسألبيه. وأعود المساء إلى مكتبه وفي يدي لتر من عرق الريان ومعه قليل من الموالح وفاءً للوعد.
وفي إحدى المرات قال لي عندما سلمته القارورة: والله يا دكتور أنت شبيه العرب!
قلت: شو بتقصد سيادة العقيد
قال: أقصد أنك كريم وشهم ونبيل ومؤدب.......
قلت: يعني قصدك أنو كل هالخصائل هي من شمائل العرب دون غيرهم يا سيادة العقيد؟ وأنو لا يمكن لغير العربي أنو يكون شهم وكريم ونبيل.
وارتبك عقيدنا قليلا ولم يعرف ماذا يجيب بل وتهرب من الإجابة بالإلحاح عليّ على أن أشاركه سهرته. وجلست معه وعندما أكمل كأسه الأولى وبدأت النشوة تدب في روحه ولاحظ عليّ ابتسامة، حلف بالطلاق على أن أخبره سبب هذه الابتسامة.
قلت له لا شيء يضحكني سوى عبارة ( أنت شبيه العرب ) يا سيادة العقيد، ففي اللغة العربية ثمة لاحقة إذا دخلت على الكلمة صارت تعني شبيهها هل تعرفها؟
قال: لا
قلت: هي ( آني ) ونستخدمها في اللغة الطبية كثيرا للدلالة على شبيه الشيء ففي المعصم مثلاً عظم شكله يشبه شكل حبة السمسم لذلك يطلق عليه اسم العظم السمسماني أي الشبيه بالسمسم، وهناك داء تجتمع فيه مادة في الجسم شبيهة بالنشاء يطلق عليه الداء النشواني أي الشبيه بالنشاء.
فضحك العقيد وقال: معناتا أنت عَرَبَاني يا دكتور. وضحك وضحك
ثم تابع قائلاً: ونقيس على ذلك يادكتور، اسمعني: الرائد ظاظا كردي، ولكنو يتهرب من كرديتو ليثبت إخلاصو وولاءو إلنا، معناتا هو شووووو؟
قلت: معناتا هو كُرداني.
فانفجر العقيد في ضحكة هستريائية وضحك وضحك.
وبينما كان العقيد يضحك، اقتحم جاري المهندس، أقصد الذي كان جاري قبل عشر سنوات، ذاكرتي وتمنيت لو كنت أعرف حينذاك مصطلح ( عَرَبَاني ) أو ( شبيه العرب ) لأخرجه به من دوامته التي أرقته وسببت له الصداع وأقول له: خلاص خيو أنا شبيه العرب أو ( عَرَبَاني )، عساني كنت وقتها ساعدته في فهم كيف يمكن للمرء أن يكون سورياً دون أن يكون عربياً... فالمهندس المعتوه لا بد أنه فهم الكثير من المعادلات في الهندسة والرياضيات والفيزياء والكيمياء حتى حصل على شهادة الهندسة أما معادلة ( سوري وغير عربي ) ما كانت تجد طريقها إلى مداركه.