Kurd Day
Kurd Day Team

أن تعشق الثورة, أن تتحدّث عنها, أن تحلم بها, كل ذلك شيء, وأن تعيشها لحظة بلحظة شيء آخر تماماً.
لم يكن القرار سهلا, مع الفجر ألقيت النظرة الأخيرة على أبي وأمي وأخوتي النيام, داريت دموعي المنسكبة, تردّدت قليلا, وفي الحدّ الفاصل بين الضعف والقوّة حسمت الأمر, وأطلقت ساقيّ للعاصفة.
كانت السيارة بانتظاري, وبرفقة السائق, ومامو, وبروين, انطلقنا تجاه الحدود الشمالية, ومن هناك تسلّلنا بخوف على الأقدام إلى المعسكر في قلب الجبال.
مرّت السنة الأولى على غيابي, قتلني الحنين إلى أهلي وأصدقائي, إلى القرية وبساتين الرمّان والزيتون وليالي الأعراس المقمرة في الصيف, وأحسست غير مرّة بأني موزّعة بين وطنين, الأول واقعي يشدّني إليه, ولا أقوى على نسيانه, والثاني فكرة, أعيشها بقلبي وعقلي ولا أستطيع التخلّي عنها أو الفكاك منها!
هنا اكتشفت طاقاتي الخفيّة, قدرتي العجيبة على التحمّل, تحمّل الجوع, والعطش, والتعب, والفراق, والتدريب القاسي, والإصابات البالغة في جسدي. تحمّل البقاء طويلا دون استحمام, أو نوم, أو راحة! فأنت عندما تعشق لا شيء يشغلك إلاّ عشقك, وعشقي كان وطن الحلم, لا وطن الواقع.
في أول لقاء لنا مع ォآبوサ سحرنا بكلماته الحماسية, الصادقة, المدويّة, التي كانت تنفذ إلى قلوبنا, وتشحن إرادتنا, وتحملنا على أجنحة الانتصار القريب. صار هو الوطن, والوطن هو. توحّدا ولم نعد نرى أحدهما إلا في صورة الآخر.
في إحدى الغارات على المعسكر سقطت قذيفة علينا, كنت مع رفيقتي بروين نحتمي تحت صخرة فانشطرت شطرين, وبعدما صحوت من هول الانفجار لم تكن بروين بقربي, كانت أشلاءً تضيء الأفق بشعاعها الدامي, وبقيت أنا بالمصادفة حيّة!
رحيل بروين المفاجئ هزّني بعنف, زعزع كياني وأفقدني صوابي. لم أعد أعرف إذا ما كان هناك مسافة بين الحياة والموت, أم أنهما يتعايشان معاً في اللحظة نفسها!
في حوارها معي لقناةB.B.C سألتني المذيعة عمّا يدفعني إلى الالتحاق بالثوار والعيش في ظروف قاسية لا يحتملها كثير من الرجال, فأجبتها بأن فكرة الوطن/ الحلم, استولت على قلبي, ولم يكن أمامي إلا أن أتبعها حتى لو قادتني إلى الموت. ابتسمت المذيعة وقالت:
ـ أليس من الأفضل لك أن تمنحي هذا الحب لرجل وبيت وأطفال؟
صمتت, كانت الفكرة قد راودتني من قبل, لكنها لم تنل منّي. ما أقسى أن تفكّر الأنثى في مثل وضعي برجل وبيت وأطفال. فتسلل مثل هذه المفردات إلى العقل والقلب بداية السقوط.
العيش في المعسكر يعني المواجهة الدائمة مع الموت, في التدريب, والمسير, والغارات المجنونة ليل نهار! لم أعد أخشى الموت, صار نمطا آخر لحياتنا اليومية, بل أصبح في تلك الآونة قاعدة والبقاء استثناءً! فبعد رحيل بروين استشهد مامو رفيق رحلتي الثاني في هجوم على أحد المخافر الحدودية. رحل الاثنان وبقيت وحدي وجها لوجه في صراع مع الموت.
بين الوطن الحلم, والواقع الذي نعيشه في المعسكر مسافة, مسافة تتّسع يوما وتتقلّص يوما آخر بقدر ما نقترب أو نبتعد من تحقيقه.
الروتين اليومي يبعث على الضجر, نحن هنا محكومون بالروتين عدا مفاجآت العواصف الثلجيّة, والغارات التي تكسر الرتابة وتضعنا من جديد أمام مواجهة غير عادلة. ثلوج, وطيران, وقنابل, والهدف بضعة مقاتلين بأسلحة فردية خفيفة, وزاد من الزبيب, والتين المجفف, وبعض المعلّبات, وما نقع عليه من صيد برّي.
الراديو هو شغفي الوحيد في ساعة الراحة إن كان هناك من راحة بين وقت وآخر. عبره كنت أسمع أخبار بلدي وبعض أصدقائي وأغاني ォشيفانサ وォكلّستانサ التي أحبّها. لن أنسى يوما عندما سمعت صوت خلدون صديقي الفلسطيني يلقي قصيدة من القسم العربي في إذاعة برلين. كل ما فيّ بدأ يرتجف, قلبي, ساقاي, يداي! معه استعدت ذكرى زيارتنا إلى المخيّم مع سعد وبشير ورؤى, وصورة حامد وهو يدافع مستميتاً عن الواقعية الاشتراكية في الأدب, فيما رياض وبشير يعدّانه من حرس الثقافة القديم الذي آن له أن يسلّم الراية وينسحب!
الذكريات, الذكريات, هي أيضا زادي هنا, زادي الذي يُشجيني ويُضعفني, ولكن هل لي أن أعيش من دونها؟
في الربيع الفائت نسّقت سبع باقات من ورود وأزهار الجبل, كل منها على شكل قلب داخل إسوارة, وأهديتها لأصدقاء عمري وشبابي: خلدون, ورؤى, وسعد, وحامد, وبشير, ورياض, والآنسة س. الذين ما زلت أشتاقهم وأحنّ إليهم. ترى أين هم الآن؟ وما الذي يفعلونه بعد كل هذه السنين من الغياب؟
ربما أبقى هنا في هذه الجبال حتى الموت, وربما تتاح لي فرصة تهريبي إلى فرنسا في فترة الهدنة لجمع الأنصار والتبرّعات, كما أخبرني قائد المعسكر, وما بين هذين الاحتمالين أضع الآن القلم والورقة جانبا, وأستعدّ للنوم بعد قليل.
هامش أوّل:
في خبر مصوّر ومثير بثته قناة ォالجزيرةサ بدت شاهو وهي تشعل النار في جسدها حتّى الموت وسط حشد جماهيري غاضب في باريس احتجاجا على إلقاء القبض على ォآبوサ في كينيا!
هامش ثان:
شارك عدد من أهل وأصدقاء ومعارف شاهو بمراسم تشييعها الرمزي, وكان سعد وفاضل في مقدّمة الجنازة يحملان طاقة ورد على شكل قلب محاط بإسوارة! أمّا رؤى ولبنى فقد أشعلتا شمعة قانية بلون الدم على روحها, وهما لا تصدّقان أنّ شاهو المرهفة حدّ الانكسار تقوى على إنهاء حياتها بهذه الطريقة المأساوية!
ـــــــــــــــ
* فصل من رواية بعنوان: أساور الورد, تصدر قريبا عن دار نون4, في حلب
……………………………
شاهو..إسوارة الورد
* نـذيـر جعفـر
ォ كنت أقاتل
واللوردات يقيسون
على شرفات فنادقهم
بالناظور
مساحة أشجاني