أيّة حيرةٍ أنا فيها ؟
فجأة فُتحَ الباب مرة أخرى ودخل الجلادين ، أمراني بالسير معهم ، قالوا أن هناكَ من يريد مقابلتي من قِبل السلطان بنفسه !
نهضتُ وحاولت أن أستجمع قواي لمرافقةِ الجلاد إلى حيث المكان الذي سأقابل فيهِ مبعوث السلطان الذي جاء لزيارتي بأمر من السلطان ،
وقع القيود في معصمي ثمّ وضع الكيس فوق رأسي واصطحبني معهُ ، بضعُ دقائق من المسير ، بعدها وصلنا إلى المكان ،
أدخلني الغرفة وساعدني كي أجلسَ على كرسي ، ثمّ رفع الكيس من على رأسي ،
كانَ مكاناً مظلماً لم أرى شيئاً غير منضدة كبيرةً بعض الشيء ومصباح مسلط على وجهي يحجب عني رؤية الأشياء التي خلفه ،
ثمّ خرج الجلاد وبقيتُ ساكناً ، شعرتُ أنني لستُ وحدي في المكان ،
كنتُ أشعر بأنفاس أحدهم ورائحة سجائر مختلفة عمّا كنتُ أشمه في تلك الزنزانة ،
ساد الصمتُ في الغرفة لبعض من الوقت ،
سمعتُ بعدها صوتٌ يقول ،
كريم ،، لقد تسببتَ في إحداث ضجة بينَ الناس ، هل من الممكن أن تشرح لي لمَ كل هذا وما الذي استفدتَ منهُ ومن وراء كتابة تلك المقالة ؟
أجبته .. يا سيّدي لم يكن هناك أحدٌ وراء كتابتي للمقال ، أنا من فكر في الكتابة وأنا من نشرهُ نحنُ بلد متحضر يشهد له الزمن ، ومن حقّنا أن نعبر عن مشاعرنا وأفكارنا ،
ومن المؤكد أنك تعرف هذه الأمور وتعلم جيداً كيف أن الغرب تطوّر بمصداقيّة الشعب مع الدولة ،
وهم ليسوا أحسن منا بشيء ،
ما الذي حصل بعدما كتبتُ المقال؟ الحكومة كما هي والسلطان ما زال على عرشهُ ، حتى الناس في الشارع قد نسوا المقال الآن وعادوا إلى حياتهم الطبيعيّة ولم يتضرر أحد ،
أنا هنا منذ أن أخذوني وأرى الموتَ في كلّ لحظة ، لم كل ما فعلتموه ؟ لمَ كل هذا التعذيب والترويع لشخصٍ لم يقل سوى كلمة حقٍ وإن كانَ قد أخطأ فالله يغفر الذنوب وأنتم لمَ لا تفعلون ؟
أفرغت ما بصدري له ولم تكن شجاعةً منّي ولكن العذاب هو من دفعني لأقول ما قلتهُ للمبعوث ،
بعد لحظاتٍ من الصمت ، أجاب قائلاً : اسمع يا كريم ، أنا جئتُ بطلبٍ من السلطان لأرى من يكون كريم نائل وما كان قصده من كتابة المقال ، لكنّي الآن توصلت إلى فكرة ..
أنتَ لستَ سوى حشرة قذرة حاولتْ أن تصنع لها بطولة ، ولكن غبائك لم يترك لك الفرصة في التفكير بعواقب ما كتبتهُ ، وكانَ هذا سبب وجودكَ هنا والحالة التي أنتَ فيها ،
بإشارة منه ، دخل الجلاد مرة أخرى وأمره بأخذي إلى زنزانتي مرة أخرى حتى ينظر في أمري وما سيتخذونه من قرار بالنسبة لي ،
اصطحبني الجلاد ، وعدنا كما جئنا ،
جلستُ على أرضيّة الزنزانة أفكر فيما قلتهُ للمبعوث ، وماذا سوفَ يقررون من أجلي ؟
رفعتُ يدي للسماء أرجو الله عزّ وجل أن يخرجني من هذه الورطة التي أنا فيها ،
شعرتُ برغبة في أن أضع رأسي على الأرض وأنامَ قليلاً ،
وما أنْ وضعتُ رأسي على الأرض حتى وقعت عيني على إحدى الكتابات التي كانت على جدران الزنزانة ،
كانت تبيّن أن صاحبها كان يسلّي نفسهُ بكتابتها رغم ما كانَ يعانيه هنا ، أو ربما كانَ يحاول أن ينسى آثار التعذيب في جسده من خلال لعبة ذكيّة كنّا نلعبها عندما كنّا صغاراً ،
وكانتْ ، الأسماء التي تقرأ من البداية إلى النهاية أو من النهاية إلى البداية وتعطيكَ نفس المعنى ،،ككلمة " ليبيا " مثلاً لو قرأتها مقلوبة ستجد نفس الكلمة ، أو " هبه " أيضاً نفس الشيء ،، الخ ..
أعجبتني اللعبة ، فخطر لي أن أقرأ ما كانَ في تلك الورقة التي وجدتها في الجدار بنفس الطريقة المعكوسة ،
وقلت بنفسي ربما وصلتُ إلى نتيجةٍ من هذه الفكرة ،
أخذتها بصعوبة من نفس المكان ، لأني كنت قد خبأتها حتى لا يراها الجلاد ،
أخذتها وقمت بجمع الحروف مع بعضها ، وقراءتها من اليسار لليمين ،
حتى انتهيت منها لأصل وقد وصلتُ إلى ما أذهلني ،،
إنها رسالة ، وهناكَ بعض التفاصيل عن هويّة ذلك الشاب ،
وكانت أول عبارة فيها ،، أنا اسمي ....
كان اسمهُ لنقل فلان" ..وهو أبن شيخ لقبيلة معروفة
وكان مكتوب فيها ، أنا هنا لأني أردتُ أن أمنع جريمة كادتْ أن ترتكب في حق فتاة ،
ذنبها أن الله سبحانه قد خلقها جميلة ،
أنا هنا منذ أيام والحروف المكتوبة هي بدمي ، عشت هنا أياماً عصيبة جداً ، ولكني سعيد لأنني استطعتُ أن أنقذ تلك الفتاة وأحمي شرفها ،
في آخر الرسالة ، كتبَ اسم الشخص الذي تسبب في دخولهِ لهذا المكان ،
وما أن انتهيتُ من القراءة حتى شعرتُ أن الأرض تريد ابتلاعي من شدة الغضب والحزن ،
بدأت أفكر لم يحدث كل هذا مع شاب أرادَ أن ينقذ شرف فتاة مسكينة وهو أبن قبيلة كبيرة ومعروفة بشجاعة أبناءها وحرصهم على مبادئهم ، وقد ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل هذا الوطن ، وهم من استند إليهم السلطان قبل أن يصل إلى زمام الأمور ،
أيكونُ هذا جزاء المعروف ؟
انتابتني نوبة هستيريّة وبدأت بضرب الباب بأقصى قوّة والصراخ ، بدأت أضرب وأصرخ كثيراً ، بكلّ ما أملك من قوّة ،
حتى فُتحَ الباب ، رأيتُ رجلين أمسكَ بي أحدهم من الخلف ووقف الثاني في وجهي ،
ثم سألني لم كل هذا الضجيج والصراخ ؟
ما بكَ هل جننت ؟
ألا تخشى أن نأخذكَ معنا في سهرة جديدة ونعيدكَ في الصباح أو لا نعيدك؟
قلت لهُ لم يعد يهم ، أريد أن أعرف شيئاً واحداً فقط،
لمَ قتلتم ذلك الشاب الذي كانَ معي في الزنزانة ؟
أجابني نحنُ لم نقتله ، هو من كانَ عنيداً ولم يدلي باعترافه ،
قلت أي اعتراف ؟
قال : هذا الشاب كانَ يريد أن يقلب نظام الحكم ونحنُ أردنا منهُ أن يكشف لنا عن مجموعتهِ التي كانت تعمل معهُ بالخفاء ،
لكنهُ لم يتكلم حتى مات ،
قلتُ له وأنا منهك ، اسمع أنا أعرف تفاصيل الحكاية ،
ليست هناك أية محاولة لقلب الحكم ، ولم يكن معهُ أحد ،
موتهُ كانَ ضريبة دفعها لشجاعتهِ ونبلهِ وضميرهِ الحي ،
كان فقط يريدُ أن يخلّص فتاة من يد مجرمٍ يحاول اغتصابها ،
أنتم جميعاً تعلمون هذا الشيء بكل وضوح ،
ثار غضبهُ بشدةٍ ، دفعني على الحائط ثمّ لكمني على وجهي بكل قوّته ، وأمسك الثاني برقبتي وكتفي ودفعني هو الآخر إلى إحدى جدران الزنزانة ، فاصطدم رأسي بالجدار وسقطُ على الأرض ،
سمعتهُ قبل أن أفقد وعيي يقول لي ،
إذا حاولتَ مرةً أخرى أن تقول ما قلتهُ لنا الآن ، أعدكَ بأنكَ ستلحق بصديقك ، ثم لم أشعر بشيء ،
استفقت من غيبوبتي بعد مدة لم أعرف كم ،
حاولتُ النهوض من مكاني لكنني لم استطع ،
شعرتُ بثقلٍ في رأسي ، تفحصتهُ وعرفتُ أنني مصاب بجرح بليغ ،
بقيتُ في مكاني دون حراك ، ولكني لم أبقى طويلاً ، فقد كنت أشعر بنعاس وذهبتُ في نومٍ عميق ،
راودني حلمٌ غريبٌ ، لم أفهم منهُ الكثير ، ولكني حلمتُ بأفراد عائلتي التي لا أعرف عنهم شيئاً ولا أضنّهم يعرفون مصيري وأين أكون ، رأيت في الحلم أيضاً مقرّ الجريدة وأصدقاء الطفولة ومدرستي وأشياء غير مفهومة ،
استيقظت على يد تلامس كتفي ، وصوت ينادي عليّ بهدوء ،
فتحتُ عينيّ ، كانَ رجلاً بكامل أناقتهِ ، حسن الثياب والمظهر ، ابتسامتهُ عريضة ،
نهضت من مكاني ولكنه أثنى ركبتيه وقال لي بابتسامة :
لقد مللنا الجلوس على الكراسي ، دعنا نجلس سويّة على الأرض أنا وأنت ، ونخرق الروتين ،
جلس بجانبي نظرت في وجهه بتمعن ، كنتُ أحاول أن أثق بشخصيّتهِ وبساطتهِ التي أظهرها منذ دخولهِ علي ،
لكنّي لم استطيع ، فقد تأكدتُ بعد دخولي لهذا الجحيم ، أن كل من هنا هو مجرمٌ وإن كانَ يلبس ثوب الملائكة ، وما كلامهم الرقيق سوى أقنعة ليأخذوا منكَ ما يريدون ،
ساد الصمت لبرهةٍ ، ثمّ وضع يده على رجلي وقال :
كريم ، أنا أعلم أن هذا المكانَ لا يطيقهُ حتى الشيطان ، ولكنْ لا تنسى أنكَ أنتَ من وضعَ نفسهُ في هذا الموقف ، ومن خلالِ فترة تواجدك هنا جمعنا عنكَ بعض المعلومات من أناسٍ مقربين إليكَ ،
وقد جعلتني أستغرب كثيراً ، وهناكَ سؤال يحيرني !
كيفَ تحوّل كريم ، من شاب يعشق الجنس اللطيف ، ومتصيّد للفتيات ، إلى سياسي يحمل بيدهِ مطرقة يريد أن يحطم بها سوراً عظيماً ؟
ألم تفكر إذا هدمتَ هذا السور ، ماذا سيحدث بعد ذلك؟
هذا السور نحنُ من حفرنا لهُ الأساس ونحن من وضعنا حجارتهُ ورفعناهُ إلى السماء ،،
فهل يُعقل أننا سنسمح لكَ ومن هو مثلكَ بهدمهِ بكل بساطة؟
بالله عليكَ لو كنت مكاننا ، هل ستسمح لأحد أن يقترب حتى من سور بيتكِ الذي فنيتَ عمركَ في بناءه والحفاظ على من فيه ؟...
شعرتُ أن مما يقولهُ ما هوَ إلا مجرد مقدمة لموضوع آخر جاء من أجله !
قلتُ له ، يا سيّدي لم لا تدخل في صلب الموضوع وتقول ما عندك ؟ وأنا كلّي آذانٌ صاغية ،
استغرب من كلامي وقال ،
أعجبتني يا كريم ، والله خسارة أن لا يكون في دائرتنا رجل يحمل مثل هذا العقل ،
ثم قال : بما أنكَ يا كريم قد اختصرتَ عليّ الطريق ووفرت الكثير من الكلام ، سأقول لكَ ما جئتُ من أجله ،
كريم ، أنسى أمر ذلك الشاب الذي كان معكَ في الزنزانة ،
وأنا لن أحول أن أبرر موقفنا وأقول لكَ أنهُ كان عميلاً لجهات خارجيّة وانه فعل أموراً مشينةً ويستحق ما حدث له ،
فالذي حصل قد حصل ، ونحنُ لا نريد أن ننبش في الماضي الذي ردمنا عليهِ التراب ويجب علينا أن نحافظ على ما فيهِ من أسرار ،
كريم ، لا تحاول أن تكشف الأمور التي تعرفها ، أنت تعلم أبن من يكون وكيف هم قبيلته ، ولا تنسى أنكَ ستكون المتضرر الأول والأخير في كل هذه الزوبعة التي ستحدثها لو تكلمت ،
أنسى أمره ، فقد رحل إلى عالمٍ آخر ،
أما أنتَ ، فما زلتَ بينَ أيدينا ، فلا تكن سبباً في إيذاء نفسكَ أكثر ، أنت تفهم ما أقول .. صح؟
أمسكَ بيدي وطلب مني أن أنهض وأن أرافقهُ إلى باب الزنزانة ،
وعند الباب طلب منهم أن يحسنوا معاملتي من الآن فصاعداً،
مدّ يدهُ وصافحني بقوّة وقال لي :
كريم ، أرجو أن أكون قد أوصلتُ رسالتي لك بكل وضوح ومصداقيّة ،
وأنتَ تعلم أنكَ لو أغضبتنا أي جحيم ستدخل ،،
وغادر ،
نهاية الحلقة.
انتظروني غدا مع الحلقة السادسة
فجأة فُتحَ الباب مرة أخرى ودخل الجلادين ، أمراني بالسير معهم ، قالوا أن هناكَ من يريد مقابلتي من قِبل السلطان بنفسه !
نهضتُ وحاولت أن أستجمع قواي لمرافقةِ الجلاد إلى حيث المكان الذي سأقابل فيهِ مبعوث السلطان الذي جاء لزيارتي بأمر من السلطان ،
وقع القيود في معصمي ثمّ وضع الكيس فوق رأسي واصطحبني معهُ ، بضعُ دقائق من المسير ، بعدها وصلنا إلى المكان ،
أدخلني الغرفة وساعدني كي أجلسَ على كرسي ، ثمّ رفع الكيس من على رأسي ،
كانَ مكاناً مظلماً لم أرى شيئاً غير منضدة كبيرةً بعض الشيء ومصباح مسلط على وجهي يحجب عني رؤية الأشياء التي خلفه ،
ثمّ خرج الجلاد وبقيتُ ساكناً ، شعرتُ أنني لستُ وحدي في المكان ،
كنتُ أشعر بأنفاس أحدهم ورائحة سجائر مختلفة عمّا كنتُ أشمه في تلك الزنزانة ،
ساد الصمتُ في الغرفة لبعض من الوقت ،
سمعتُ بعدها صوتٌ يقول ،
كريم ،، لقد تسببتَ في إحداث ضجة بينَ الناس ، هل من الممكن أن تشرح لي لمَ كل هذا وما الذي استفدتَ منهُ ومن وراء كتابة تلك المقالة ؟
أجبته .. يا سيّدي لم يكن هناك أحدٌ وراء كتابتي للمقال ، أنا من فكر في الكتابة وأنا من نشرهُ نحنُ بلد متحضر يشهد له الزمن ، ومن حقّنا أن نعبر عن مشاعرنا وأفكارنا ،
ومن المؤكد أنك تعرف هذه الأمور وتعلم جيداً كيف أن الغرب تطوّر بمصداقيّة الشعب مع الدولة ،
وهم ليسوا أحسن منا بشيء ،
ما الذي حصل بعدما كتبتُ المقال؟ الحكومة كما هي والسلطان ما زال على عرشهُ ، حتى الناس في الشارع قد نسوا المقال الآن وعادوا إلى حياتهم الطبيعيّة ولم يتضرر أحد ،
أنا هنا منذ أن أخذوني وأرى الموتَ في كلّ لحظة ، لم كل ما فعلتموه ؟ لمَ كل هذا التعذيب والترويع لشخصٍ لم يقل سوى كلمة حقٍ وإن كانَ قد أخطأ فالله يغفر الذنوب وأنتم لمَ لا تفعلون ؟
أفرغت ما بصدري له ولم تكن شجاعةً منّي ولكن العذاب هو من دفعني لأقول ما قلتهُ للمبعوث ،
بعد لحظاتٍ من الصمت ، أجاب قائلاً : اسمع يا كريم ، أنا جئتُ بطلبٍ من السلطان لأرى من يكون كريم نائل وما كان قصده من كتابة المقال ، لكنّي الآن توصلت إلى فكرة ..
أنتَ لستَ سوى حشرة قذرة حاولتْ أن تصنع لها بطولة ، ولكن غبائك لم يترك لك الفرصة في التفكير بعواقب ما كتبتهُ ، وكانَ هذا سبب وجودكَ هنا والحالة التي أنتَ فيها ،
بإشارة منه ، دخل الجلاد مرة أخرى وأمره بأخذي إلى زنزانتي مرة أخرى حتى ينظر في أمري وما سيتخذونه من قرار بالنسبة لي ،
اصطحبني الجلاد ، وعدنا كما جئنا ،
جلستُ على أرضيّة الزنزانة أفكر فيما قلتهُ للمبعوث ، وماذا سوفَ يقررون من أجلي ؟
رفعتُ يدي للسماء أرجو الله عزّ وجل أن يخرجني من هذه الورطة التي أنا فيها ،
شعرتُ برغبة في أن أضع رأسي على الأرض وأنامَ قليلاً ،
وما أنْ وضعتُ رأسي على الأرض حتى وقعت عيني على إحدى الكتابات التي كانت على جدران الزنزانة ،
كانت تبيّن أن صاحبها كان يسلّي نفسهُ بكتابتها رغم ما كانَ يعانيه هنا ، أو ربما كانَ يحاول أن ينسى آثار التعذيب في جسده من خلال لعبة ذكيّة كنّا نلعبها عندما كنّا صغاراً ،
وكانتْ ، الأسماء التي تقرأ من البداية إلى النهاية أو من النهاية إلى البداية وتعطيكَ نفس المعنى ،،ككلمة " ليبيا " مثلاً لو قرأتها مقلوبة ستجد نفس الكلمة ، أو " هبه " أيضاً نفس الشيء ،، الخ ..
أعجبتني اللعبة ، فخطر لي أن أقرأ ما كانَ في تلك الورقة التي وجدتها في الجدار بنفس الطريقة المعكوسة ،
وقلت بنفسي ربما وصلتُ إلى نتيجةٍ من هذه الفكرة ،
أخذتها بصعوبة من نفس المكان ، لأني كنت قد خبأتها حتى لا يراها الجلاد ،
أخذتها وقمت بجمع الحروف مع بعضها ، وقراءتها من اليسار لليمين ،
حتى انتهيت منها لأصل وقد وصلتُ إلى ما أذهلني ،،
إنها رسالة ، وهناكَ بعض التفاصيل عن هويّة ذلك الشاب ،
وكانت أول عبارة فيها ،، أنا اسمي ....
كان اسمهُ لنقل فلان" ..وهو أبن شيخ لقبيلة معروفة
وكان مكتوب فيها ، أنا هنا لأني أردتُ أن أمنع جريمة كادتْ أن ترتكب في حق فتاة ،
ذنبها أن الله سبحانه قد خلقها جميلة ،
أنا هنا منذ أيام والحروف المكتوبة هي بدمي ، عشت هنا أياماً عصيبة جداً ، ولكني سعيد لأنني استطعتُ أن أنقذ تلك الفتاة وأحمي شرفها ،
في آخر الرسالة ، كتبَ اسم الشخص الذي تسبب في دخولهِ لهذا المكان ،
وما أن انتهيتُ من القراءة حتى شعرتُ أن الأرض تريد ابتلاعي من شدة الغضب والحزن ،
بدأت أفكر لم يحدث كل هذا مع شاب أرادَ أن ينقذ شرف فتاة مسكينة وهو أبن قبيلة كبيرة ومعروفة بشجاعة أبناءها وحرصهم على مبادئهم ، وقد ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل هذا الوطن ، وهم من استند إليهم السلطان قبل أن يصل إلى زمام الأمور ،
أيكونُ هذا جزاء المعروف ؟
انتابتني نوبة هستيريّة وبدأت بضرب الباب بأقصى قوّة والصراخ ، بدأت أضرب وأصرخ كثيراً ، بكلّ ما أملك من قوّة ،
حتى فُتحَ الباب ، رأيتُ رجلين أمسكَ بي أحدهم من الخلف ووقف الثاني في وجهي ،
ثم سألني لم كل هذا الضجيج والصراخ ؟
ما بكَ هل جننت ؟
ألا تخشى أن نأخذكَ معنا في سهرة جديدة ونعيدكَ في الصباح أو لا نعيدك؟
قلت لهُ لم يعد يهم ، أريد أن أعرف شيئاً واحداً فقط،
لمَ قتلتم ذلك الشاب الذي كانَ معي في الزنزانة ؟
أجابني نحنُ لم نقتله ، هو من كانَ عنيداً ولم يدلي باعترافه ،
قلت أي اعتراف ؟
قال : هذا الشاب كانَ يريد أن يقلب نظام الحكم ونحنُ أردنا منهُ أن يكشف لنا عن مجموعتهِ التي كانت تعمل معهُ بالخفاء ،
لكنهُ لم يتكلم حتى مات ،
قلتُ له وأنا منهك ، اسمع أنا أعرف تفاصيل الحكاية ،
ليست هناك أية محاولة لقلب الحكم ، ولم يكن معهُ أحد ،
موتهُ كانَ ضريبة دفعها لشجاعتهِ ونبلهِ وضميرهِ الحي ،
كان فقط يريدُ أن يخلّص فتاة من يد مجرمٍ يحاول اغتصابها ،
أنتم جميعاً تعلمون هذا الشيء بكل وضوح ،
ثار غضبهُ بشدةٍ ، دفعني على الحائط ثمّ لكمني على وجهي بكل قوّته ، وأمسك الثاني برقبتي وكتفي ودفعني هو الآخر إلى إحدى جدران الزنزانة ، فاصطدم رأسي بالجدار وسقطُ على الأرض ،
سمعتهُ قبل أن أفقد وعيي يقول لي ،
إذا حاولتَ مرةً أخرى أن تقول ما قلتهُ لنا الآن ، أعدكَ بأنكَ ستلحق بصديقك ، ثم لم أشعر بشيء ،
استفقت من غيبوبتي بعد مدة لم أعرف كم ،
حاولتُ النهوض من مكاني لكنني لم استطع ،
شعرتُ بثقلٍ في رأسي ، تفحصتهُ وعرفتُ أنني مصاب بجرح بليغ ،
بقيتُ في مكاني دون حراك ، ولكني لم أبقى طويلاً ، فقد كنت أشعر بنعاس وذهبتُ في نومٍ عميق ،
راودني حلمٌ غريبٌ ، لم أفهم منهُ الكثير ، ولكني حلمتُ بأفراد عائلتي التي لا أعرف عنهم شيئاً ولا أضنّهم يعرفون مصيري وأين أكون ، رأيت في الحلم أيضاً مقرّ الجريدة وأصدقاء الطفولة ومدرستي وأشياء غير مفهومة ،
استيقظت على يد تلامس كتفي ، وصوت ينادي عليّ بهدوء ،
فتحتُ عينيّ ، كانَ رجلاً بكامل أناقتهِ ، حسن الثياب والمظهر ، ابتسامتهُ عريضة ،
نهضت من مكاني ولكنه أثنى ركبتيه وقال لي بابتسامة :
لقد مللنا الجلوس على الكراسي ، دعنا نجلس سويّة على الأرض أنا وأنت ، ونخرق الروتين ،
جلس بجانبي نظرت في وجهه بتمعن ، كنتُ أحاول أن أثق بشخصيّتهِ وبساطتهِ التي أظهرها منذ دخولهِ علي ،
لكنّي لم استطيع ، فقد تأكدتُ بعد دخولي لهذا الجحيم ، أن كل من هنا هو مجرمٌ وإن كانَ يلبس ثوب الملائكة ، وما كلامهم الرقيق سوى أقنعة ليأخذوا منكَ ما يريدون ،
ساد الصمت لبرهةٍ ، ثمّ وضع يده على رجلي وقال :
كريم ، أنا أعلم أن هذا المكانَ لا يطيقهُ حتى الشيطان ، ولكنْ لا تنسى أنكَ أنتَ من وضعَ نفسهُ في هذا الموقف ، ومن خلالِ فترة تواجدك هنا جمعنا عنكَ بعض المعلومات من أناسٍ مقربين إليكَ ،
وقد جعلتني أستغرب كثيراً ، وهناكَ سؤال يحيرني !
كيفَ تحوّل كريم ، من شاب يعشق الجنس اللطيف ، ومتصيّد للفتيات ، إلى سياسي يحمل بيدهِ مطرقة يريد أن يحطم بها سوراً عظيماً ؟
ألم تفكر إذا هدمتَ هذا السور ، ماذا سيحدث بعد ذلك؟
هذا السور نحنُ من حفرنا لهُ الأساس ونحن من وضعنا حجارتهُ ورفعناهُ إلى السماء ،،
فهل يُعقل أننا سنسمح لكَ ومن هو مثلكَ بهدمهِ بكل بساطة؟
بالله عليكَ لو كنت مكاننا ، هل ستسمح لأحد أن يقترب حتى من سور بيتكِ الذي فنيتَ عمركَ في بناءه والحفاظ على من فيه ؟...
شعرتُ أن مما يقولهُ ما هوَ إلا مجرد مقدمة لموضوع آخر جاء من أجله !
قلتُ له ، يا سيّدي لم لا تدخل في صلب الموضوع وتقول ما عندك ؟ وأنا كلّي آذانٌ صاغية ،
استغرب من كلامي وقال ،
أعجبتني يا كريم ، والله خسارة أن لا يكون في دائرتنا رجل يحمل مثل هذا العقل ،
ثم قال : بما أنكَ يا كريم قد اختصرتَ عليّ الطريق ووفرت الكثير من الكلام ، سأقول لكَ ما جئتُ من أجله ،
كريم ، أنسى أمر ذلك الشاب الذي كان معكَ في الزنزانة ،
وأنا لن أحول أن أبرر موقفنا وأقول لكَ أنهُ كان عميلاً لجهات خارجيّة وانه فعل أموراً مشينةً ويستحق ما حدث له ،
فالذي حصل قد حصل ، ونحنُ لا نريد أن ننبش في الماضي الذي ردمنا عليهِ التراب ويجب علينا أن نحافظ على ما فيهِ من أسرار ،
كريم ، لا تحاول أن تكشف الأمور التي تعرفها ، أنت تعلم أبن من يكون وكيف هم قبيلته ، ولا تنسى أنكَ ستكون المتضرر الأول والأخير في كل هذه الزوبعة التي ستحدثها لو تكلمت ،
أنسى أمره ، فقد رحل إلى عالمٍ آخر ،
أما أنتَ ، فما زلتَ بينَ أيدينا ، فلا تكن سبباً في إيذاء نفسكَ أكثر ، أنت تفهم ما أقول .. صح؟
أمسكَ بيدي وطلب مني أن أنهض وأن أرافقهُ إلى باب الزنزانة ،
وعند الباب طلب منهم أن يحسنوا معاملتي من الآن فصاعداً،
مدّ يدهُ وصافحني بقوّة وقال لي :
كريم ، أرجو أن أكون قد أوصلتُ رسالتي لك بكل وضوح ومصداقيّة ،
وأنتَ تعلم أنكَ لو أغضبتنا أي جحيم ستدخل ،،
وغادر ،
نهاية الحلقة.
انتظروني غدا مع الحلقة السادسة