Kurd Day
Kurd Day Team

• نوري بريمو في 9 نيسان 2003م، أي قبل ما يزيد عن خمس سنوات ونيِّف، فوجئ العالم أجمع وبشكل خاص المحللون السياسيون المهتمون بالأوضاع الشرق الأوسطية وبالشأن العراقي، بمشهد انهيار طاغية العراق الذي انهزم بطريقة دونكيشوتية مذهلة ومذلة وشبيهة بكومة قش احترقت في حين
غرة، بعد أن كان قد تجبَّر عقودا من الزمن على أهل بلاد الرافدين ودشن لنفسه وحاشيته قصورا عاجية وبنى نظاماً فاشياً وتباهى بقدراته العسكرية وأبهر البسطاء وأرعب الضحايا وإدعى بأنه حامي حمى البوابة الشرقية لبلاد العُرْب، ليس هذا فحسب وإنما تمادى أكثر فتحدى الأسرة الدولية برمتها وقاطع المحيط العربي بأكثريته، وقاتل الجوار الإيراني في معركة "القادسية" التي دامت ثماني سنوات استنزفت طاقات البلدين والتهمت بنيرانها أرواح مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء لدى الطرفين، واستفرد بإقليم كوردستان وأنفل مواطنيه وضربه بالكيمياء وطبق حيالهم سياسة الأرض المحروقة "الجينوسايد" المحرّمة دوليا، وأهدر دماء الشيعة وأعدم أئمتهم ودمَّر مزاراتهم ومنع طقوس عبادتهم، وفرّق صفوف السنة وأحرَق أخضر ويابس البلاد ودنّس البيت العراقي باختلاق الفتن القومية والطائفية لأكثر من عشرين عاماً عمّ خلالها الطغيان ودبّ الرعب السلطوي.
ورغم أنّ "صدام القادسية" قد تباهى بفروسيته وادعى مرارا وتكرارا بأنّ جيشه عقائدي جدا ولن يُقهَر مهما كلف الأمر!!، إلا أنه لم يصمُـدْ سوى عشرين يوماً وليلة، ليتبـيّـن فيما بعد بأنه كان عبارة عن هالة غولية أو بالأحرى كثبان رملي أو كومة قـش التهمتها في حين غرّة نيران الهجمات العسكرية التي شنّـتها ضده قوات التحالف الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي نسَّقت مع الداخل العراقي الذي كان متأهباً لخوض استحقاقات ما قبل وبعد الانهيار التاريخي لنظام البعث البائد.
وللعلم فإنّ السقوط الأسطوري لصدام الذي كان متربعاً على عرش مملكة الرعب التي أظهرت الأحداث بأنها كانت مملكة طوباوية هشـّـة لأنها هوَتْ بين ليلة وضحاها دون أية مقاومة من حماة قلاع ظلمها التي كانت مدجّـجة بشتى صنوف العدة والعتاد..، لم يكن بالإمكان حصوله (أي ذلك السقوط) لولا فقدان طاغية العراق لمناعته الذاتية ولقدراته الدفاعية، ولولا خسارته لمحبة واحترام وثقة الشعب العراقي الذي وقف بجميع أطيافه بالضد من النظام واختار لنفسه النضال بشتى السبل والوسائل والاصطفاف مع الخارج لتحرير بلده من الحكم الاستبدادي الذي كان قد عكـّر صفوه لا بل أعدم حياة العراقيين بمختلف انتماءاتهم القومية والدينية والطائفية وغيرها.
ولعلّ العبرة الأبرز التي ينبغي على الأطراف السياسية السائرة في ركاب قيادة العراق الجديد الاتعاظ بها، تكمن في مدى مقدرتهم على معرفة سرّ اندحار سلطة البعث التي لم تكن تهوي لولا هشاشة هيكلتها المؤسساتية والمجتمعية، وها قد انكشف مستور الهزيمة لاحقاً وتبيَّن فيما بعد بأنّ البيت العراقي لم يكنْ مع صدام آنذاك ولم يكن محصّـناً من الداخل لا بل إنه كان مفككاً ومغتصباً ومنقسماً على نفسه إلى أبعد حدود الانقسام!؟، في ظل مواصلة الصداميين لكبتْ روحية وإرادة الانتماء الوطني للإنسان العراقي عبر قهره وإسكات صوته والدّوس على كرامته واستلاب حقوقه والتمييز بين الأطياف وتقتيل الوطنيين وتهجيرهم وتشريدهم بالجملة، ما جعل الحكم البعثي البائد يفقد مشروعيته ومقومات بقائه في السلطة.
في حين لا يختلف اثنان بأنّ الخيار السياسي الرابح الذي ينبغي أن تختاره أية حكومة غير استبدادية وتريد الخير والرخاء والأمن والاستقرار لبلدها، هو خيار تحصين البلد من الداخل عبر تعزيز جبهة شرفائه وتخصيب مكوناته بمختلف الاستحقاقات التي من شأنها حضّ المواطنين على القيام بواجباتهم حيال وطنهم الذي ينبغي أن يحتضنهم ويآويهم وينصفهم ولا يفرّق بينهم.
واليوم وفي هذه الأيام الانتقالية العصيبة وفيما يندرج العراق الفدرالي في مقدمة الاستهدافات الإقليمية الموسومة بالعطالة وبتعطيل ما يمكن تعطيله من بنى تحتية وفوقية بشكل تآمري، وقد نال العراق قسطاً وافراً من تلك التهديدات والتدخلات التي وضعتْ البلد حالياً على كف عفريت نزاعات أهلية مستوردة، مما إستوجَب ويستوجب أخذ كل الاحتمالات والمفاجات بعين الاعتبار لدى الخوض في المحك العملي الذي قد يشهد مشاهد لم تكن بحسبان أي فريق مساهم بالعملية السياسية أو دائر ظهره لها وينحى باتجاه آخر بعيد عن الواقع العراقي الذي يقتضي مزيداً من العقلانية في الطرح والروية في التطبيق والإيثارية في الاستحقاقات والمقدامية في الواجبات، وخاصة ما يتعلق بمسيرة استكمال مقومات تحصين البلد عبر تثبيت أركان نظامه السياسي اللامركزي وتطوير دمقرطته وفدرلته المستهدَفة والمصطدمة يوماً بعد آخر بمعوقات دخيلة لا حصر لها.
ودرءاً لأية مخاطر مستـَقدَمة قد تداهم الديار على غفلة أو بلا غفلة أية غفلة، حاضراً أو مستقبلاً، فإنه من المنطقي جداً أن تستفيد القيادات العراقية الجديدة من الدرس الصدامي، وأن تـتـقن شيئاً فشيئاً فنون كيفية إدارة الملفات العالقة بإخلاص وبالطرق الدبلوماسية وبالأساليب السلمية بعيداً عن لغة عسكرة الحلول المتوارثة بالفطرة في شرق أوسطنا الذي يحصد حالياَ بعضاً من أضرار النمو السرطاني للبذور العنفية المزروعة سالفاً، وأن تأخذ بعين الاعتبار حجم الطوق المؤامراتي الذي يحوم حول التخوم، وأن تتجنّب إلى حدّ ما تلك المواقف الحدّية والتشنجات المسبقة الصنع التي قد تؤدي إلى توريط البلد في مواجهات داخلية تهدّد الأمن والاستقرار بلا طائل.
وبما أنّ كل الغيارى على حاضر ومستقبل العراق يؤمنون بسلامة حكمة: درهم وقاية خير من قنطار علاج...!، فإنّ خير خطاب يحصّن جسد العراق الجديد هو الالتزام بالتوافق السياسي الديمقراطي بين مكوناته الرئيسية، على قاعدة: لا غالب ولا مغلوب بعيداً عن أية لعبة برلمانية أو حكومية أو غيرها من الفبركات الآتية من قبيل الاحتماء بمنطق الأكثرية السكانية الوهمية التي قد تشجع بعض الفرقاء في كثير من الأحيان نحو مسلكية الجنوح الفوقي اللاغي للآخر والمناقض للتوافقات الحاصلة والخارق للدستور والانقلابي على الوقائع الملموسة الفارضة نفسها في الساحة العملية التي لا تحتمل الشطب على أي طرف كشريك فعلي وليس كمشارك مهمَّش ويتعرض لشِراك الآخرين بين الحين والآخر.
وفي هذه الحالة العراقية يبدو أنه ليس من مصلحة العراق الفدرالي التعددي، أن يستجلب الدببة الإقليميين إلى كرمه الخـدّج أي الحديث الولادة، أو أن ينساق ويستمر في الانصياع للأفكار الجهنمية لعلوج ولفلول البعث وأيتام صدام المسعورين الذين يحاولون نخر العملية السياسية وتعكير صفوة أجوائها بلا رادع، وليس من مصلحة العراق أيضاً أن يستمع لنصائح (دسائس) جواره المتربصين به والماضين قدماً في مسعى مواصلة الإخلال بتوازنات البيت العراقي المحتاج لإعادة ترميمه من الداخل بالتعاون مع الحلفاء الخارجيين، ويبدو أنه ليس من مصلحة هذا البلد أيضاً أن ينصر فئة معينة على حساب مصالح أي مكوّن رئيسي، في حين ليس بوسع العراق أن يبقى قوياً وموحداً بدون احترام إرادة الكورد والشيعة والسنة وغيرهم من مكوناته الأصيلة.
ولعلّ الشاهد الأكثر دلالة على أنّ هنالك ثمة مخاطر مصدرها إستقواء البعض بالاحتكام لسلاح الأكثرية ومحاولة استلاب السلطة في عراق اليوم المحتاج للتوافق وليس للتلاعب بمواد الدستور واللجوء للتصويت عبر لعبة رفع الأيدي على منوال الشاطر حسن كما يُقال!!، هو الأسلوب الإلتوائي الذي اتبعته بعض الكتل البرلمانية بصدد إقرار زيادة عدد مقاعد مجلس النواب العراقي بشكل تمييزي وحسبما اقتضته مصلحة الأكثرية التي يبدو أنها باتت تحنُّ إلى عقليات الماضي الصدامي وتنوي صهر الأقليات في بطونها، حيث شملت الزيادة عموم المحافظات العراقية ذات الأكثرية العربية، في حين اقتصرت هذه الزيادة في إقليم كوردستان على ثلاثة كراس فقط!!، في الوقت الذي يشهد فيه القاصي والداني بأن كوردستان كانت وتنعم حاليا بالأمن والاستقرار والازدهار في شتى الأصعدة ولذا شهدت نموا سكانيا ملحوظا وأكثر بكثير من وسط وجنوب العراق اللذين لم ينعما حتى الحين بأي مقوم من مقومات التنامي السكاني لعدم توفر أبسط عوامل الاستقرارالأمني والاقتصادي والاجتماعي.
وبما أن الجانب الكوردستاني قادر على التمييز بين الصادق والمنافق ولا يراهن على مسلكيات الإيقاع بالشركاء ونصب الفخاخ وهو يؤمن بمقولة "من حفر حفرة لأخيه وقع فيها" ولا يجد أيه جدوى في مثل هكذا ألاعيب مخادعة ومسيئة للآخرين، فإنه بادر وأعلن موقفه الرافض للتعديلات العنصرية التي طالت قانون الانتخابات مؤخرا، وقد جاء هذا الرفض المشروع على لسان رئيس ديوان رئاسة الإقليم الذي أوضح بأن التحالف الكوردستاني قد يقاطع الانتخابات البرلمانية المقبلة فيما إذا لم يتم إنصاف محافظات الإقليم عبر زيادة عدد برلمانييها إسوة بباقي المحافظات، يُذكر بأنّ تصريح الرئيس مسعود بارزاني بهذا الشأن الذي بات يشغل بال الشارع الكوردستاني، قد حظي بإجماع أصوات برلمان كوردستان وبمباركة الكتل البرلمانية المعارضة وبرضا شعبي واسع وشمل سائر الأطياف الكوردستانية على الإطلاق.
وإذا كان ولا بد من المراهنة على رهان رابح لحل مختلف القضايا التي كانت عالقة وباتت شبه ناشبة بين بغداد وأربيل، فإنه ليس أمام البرلمان والحكومة الاتحادية سوى المراهنة على تحصين الذات العراقية بعيداً عن هواجس الماضي الدفين، فخير الرهانات تكمن في الإنكباب على تطبيق الدستور بلا أي تردد أو تجزيء أو انتقائية قد تضع العصي بالعجلات، والالتفات إلى إعادة ترتيب البلد وفق آليات تلازمية تنسجم مع التركيبة القومية والدينية والطائفية المتأصلة في فسيفساء بلاد الرافدين الذاخرة بتعددية آدمية قلّ مثيلها في معمورتنا العامرة بتنوع أهلها.
ولضرورات كثيرة وليس واحدة، ليس بالوسع سوى التأكيد بأنّ خيار التوافق هو المسار العقلاني الضامن لتحقيق النجاح والتقدم والموفقية المتوخاه، شريطة دفن أحقاد الماضي والتخلي عن العقلية القديمة والكف عن جميع أشكال الإلتوائية والتحايلية وتمرير القوانين وما شابها من خروقات للدستور ولمبدأ التوافق الساري مفعوله حتى الحين حرصاً على تحصين العراق الجديد الذي يتناسب طرداً مع فدرلته، والذي يستحيل إعماره وتطويره دون مشاركة فعلية لمكوناته الرئيسية الثلاثة، سيّما وأنّ الشيعة والسنة والكورد لطالما ضحوا بالغالي والرخيص في سبيل الإتيان بهذا العراق المتحرر لتوه من مخالب الحكم الاستبدادي المقبور.
وأخيرا ليس آخراً..يتبادر إلى مخيلة أي مهتم بشأن العراق الفدرالي التعددي، أن ثمة تساؤلات محيّرة وتحتاج إلى إجابات صريحة لأنها تحمل في طياتها علامات فارقة تعجبية كثيرة، ماذا تعني الفدرالية ألا تعني الشراكة؟، وما الفرق بين الشراكة والشِراك؟، وكم سيكون عمر الشراكة إذا قام أحد الشركاء بنصب الفخاخ للإيقاع بشريكه الآخر لجهة إقصائه من الحكم؟، وما قيمة الشراكة إذا غاب التوافق وضاق صدر هذا الشريك أو ذاك؟، وهل يبقى للفدرالية أي معنى حينما تشوبها الشكوك والأحابيل؟.
في كل الأحوال لن يصح إلا الصحيح، وسيبقى الجانب الكوردستاني متفائلا بالخير ليجده لنفسه وللآخرين، وبما أنّ الأعمال بالنيات فإنّ الالتزام بخيار الشراكة الحقيقة أفضل من الالتجاء لنصب الشِراك للآخرين.
====================
مجلة الصوت الآخر: أسبوعية سياسية تصدر في هولير عاصمة إقليم كوردستان الفدرالي ـ العدد (269) - التاريخ 25/11/2009